تحــف معمارية تاريخية تعود إلى القرن الخامـس عشـر

البنايـات العتيقـة بالبليــدة مهـدّدة بالــزّوال

البليدة: أحمد حفاف

صفحـــات مـــن تاريــخ المنطقــة تمحوهـــا أطمـاع الرّبــح السّريـــع

 تُواجه البنايات القديمة لمدن ولاية البليدة، خطر الزوال بفعل تنامي نشاط المرقّين العقاريين في الفترة الأخيرة، حيث يقوم هؤلاء بشراء سكنات عتيقة وفيلات مبنية منذ عقود من الزمن من أجل إنجاز عمارات مكانها، وبالرغم من أهمية مثل هذه البنايات للجذب السياحي والثقافي للمنطقة، فجدرانها تروي قصص الماضي البعيد.
 تعتبر البنايات القديمة بمثابة أداة جذب سياحي من شأنها ترقية السياحة في البليدة، خاصة أنها لا تتواجد بعاصمة الولاية فحسب، بل تنتشر في بلديات أخرى مثل مفتاح والأربعاء وموزاية وبوفاريك، منها ما يعود تاريخها إلى الفترة الاستعمارية، فيما يعود بعضها الآخر إلى بدايات الفترة العثمانية في الجزائر.
ومعلوم أن البنايات العتيقة تسهم في تطوير السياحة، حيث يمكن إدراجها ضمن المسارات السياحية التي وضعتها الوزارة الوصية مؤخرا في موقع من أجل الترويج للأماكن التي يمكن زيارتها في بلادنا، لذا يطالب المسؤولون المحليون في البليدة بضرورة حماية هذه البنايات من الاندثار.
يقول رئيس بلدية البليدة رشدي عوف: «للأسف لقد مرّ على المجلس البلدي مسؤولون، ورحلوا دون أن يضمنوا تصنيف الأماكن العتيقة في قائمة التراث المادي الذي وجب تثمينه وحمايته، ونقصد هنا مدينتي «الدويرات» و»الجون» التي بناها الأتراك وبنايات أخرى مثل «قصر عزيزي».
وأضاف محدّثنا قائلا: «هناك فيلات مهمة تم إنجازها خلال فترة الاستعمار الفرنسي، وهي تُشكّل أيضا موروثا معماريا للمنطقة، ومن الضروري تثمينها خاصة مع مسعى إعداد الذاكرة الوطنية التي تعنى بالتاريخ، وهذه البنايات تعكس مختلف الحقبات التي مرت بها المنطقة».
وتابع المتحدث: «ما يحدث منذ سنوات في البليدة، هو أن مُرقين استغلوا الفراغ التشريعي، وحصولهم على رخص البناء والهدم بسهولة، فاشتروا عقارات هي في حقيقتها بنايات قديمة أزالوها، وأنجزوا مكانها عمارات بطوابق سواء لإنجاز سكنات اجتماعية أو محلات تجارية».
وختم بقوله: «كان لابد من ترميم السكنات العتيقة بدلا من هدمها، لكن للأسف القانون حاليا لا يمنع أصحابها من بيعها، ولا يمنع أيضا منح ترخيص هدمها، لذا لا نستطيع توقيف نشاط هؤلاء المرقيين إلا بتصنيف البنايات العتيقة على أنّها تراث معماري، وكذا وضع الإطار القانوني للحفاظ عليها».
من جهته، تحدث مدير معهد الهندسة المعمارية حسين محمد أيت سعدي عن مدينة البليدة: «البليدة مدينة تاريخية يعود تشييدها إلى القرن 15م، عرفت عدة مراحل تاريخية كسبت خلالها عدة أنماط معمارية، ما جعلها تصنف ضمن التراث العالمي».
وأضاف: «حي الدويرات العتيق هو بمثابة قصبة البليدة، وهي المدينة التي أسسها الوالي سيدي الكبير أطلق عليها هذا الاسم؛ لأنه يعني مجموع ديار صغيرة، والتي تم إنجازها خلال الحكم العثماني مثل قصر العزيزة في بني مراد».
ووصف الأكاديمي التعدي على البنايات العتيقة بالكارثة، وأبرز قائلا: «هناك فيلات وبنايات قديمة منجزة بطريقة متميزة، تشكل الموروث المادي للأجيال القادمة، لكن بعدما أصبح المتر المربع يباع بسعر جد مرتفع، لجأ المرقون العقاريون للتكثيف المعماري بتشييد عمارات بطوابق، وهكذا سيؤثرون على الطابع المعماري الذي يميز المنطقة، وسيكون سببا في اندثار الموروث المعماري وحتى العلاقات الاجتماعية التي كانت بين الجيران».
تفعيل مخطّط الإنقاذ
دعا المسؤول بجامعة سعد دحلب بالبليدة إلى تفعيل مخطط إنقاذ بادرت به مديرية الثقافة لولاية البليدة في وقت سابق: «يمكن تدارك الوضع لحماية الموروث المعماري للبليدة، وهذا ما سعت إليه، في وقت سابق، مديرية الثقافة بوضع مخطط لإنقاذ المعالم الأثرية في المنطقة، حيث أوصت بتأميم البنايات العتيقة لتستطيع الدولة أن تتصرف فيها لاحقا، فهي حاليا ملك للخواص ولا يمكنها منعهم من بيعها».
في هذا الصدد أوضح أيت سعدي: «المقيمون أو الورثة بحي الدويرات قد لا يملكون الأموال لترميم سكناتهم، لذا يفضلون بيعها وهذا ما يستغله المرقون العقاريون للأسف الشديد، واستمرار بناء العمارات في البليدة بعد سنوات قليلة سيفقدها نمطها العمراني الأصيل بل سيخلف تأثيرات على الجانبين الاجتماعي والسياحي».
وفي سؤال حول البنايات التي يمكن إنقاذها أجاب أيت سعدي: «حي الدويرات التي تم إنجازها في القرون الوسطى، وبعض المعالم مثل مقر بلدية البليدة مثلا أو المساجد المتواجدة في المحيط الحضري، لكن كبداية يجب أن نقوم بجرد هذه البنايات العتيقة بدقة حتى تصبح ممنوعة اللمس».
وأكد بأن عدم تنفيذ مخطط الإنقاذ الذي وضعته مديرية الثقافة، ويتمثل في دفتر شروط يُصنف البنايات القديمة لعدم المساس بها، أدى إلى حدوث نزيف للبنايات القديمة، خاصة وأن القانون لا يمنع الخواص من التصرف فيها.
ومن أجل ردّ الاعتبار للإرث المادي، كشف المتحدث بأن جامعة البليدة قررت فتح منصب جديد في التكوين ما بعد التدرج في طور الدكتوراه في تخصص ترميم البنايات القديمة، والذي يُعنى بتلقين الطلبة تقنيات ووسائل تثمين البنايات التاريخية والمعالم الأثرية.
الثّروة المغيبة
 يعتبر شارع باب الجزائر بمثابة قلب مدينة البليدة بسبب الحركة التجارية التي تٌميزه منذ القدم، يقصده الجميع للتسوق والتجول على حد سواء، بل يعد من بين أهم المواقع التي يمكن إدراجها ضمن المسارات السياحية، خاصة وأنه يضم ساحة التوت العتيقة التي ترمز لمدينة البليدة.
ولا يختلف اثنان بأن شارع باب الجزائر يجلب السياح بفضل بناياته العتيقة التي تجعل الزوار يشعرون وكأنهم يتجولون في التاريخ، فهذه البنيات تعكس الثقافة الإسلامية للمجتمع الجزائري ومن الضروري بما كان ترميمها ليبقى المكان قبلة للسياح، يقول الأستاذ أيت سعدي.
بدوره يرى عضو مجلس الأمة الياس عاشور، بأن ترميم البنيات العتيقة لشارع باب الجزائر وبعض المعالم الأثرية في ولاية البليدة، سينعكس بالإيجاب على السياحة، فترتقي أكثر مع توافر مقومات سياحية أخرى في المنطقة مثل الحظيرة الوطنية الشريعة وأماكن جبلية أخرى مثل عنصر القردة في الشفة ومقطع لزرق في حمام ملوان.
ويُشاطره أيت سعدي الرأي بالقول: «المدن العتيقة ثروة سياحية لابد من الحفاظ عليها لتسهم في تحقيق الاقتصاد البديل، والدولة ستفتح مناصب عمل للشباب البطال إذا ما قررت ترميمها، وهكذا سنضرب عصفورين بحجر واحد».
وتابع المتحدث قوله: «البليدة منطقة سياحية بامتياز، لذلك لابد من تثمين كل ممتلكاتها المادية لجذب السياح المحليين والأجانب، فينبغي جرد كل البنايات القديمة، وتفعيل مخطط انقاذها بالحفاظ على الأنماط المعمارية التي تعكس الهوية الوطنية لحقب متتالية من تاريخ المنطقة».
آمال معلّقة
 ولأجل حماية الموروث المعماري لمدن البليدة لتسهم في تطوير السياحة، دعا «السيناتور» عاشور الدولة إلى ضرورة تخصيص ميزانية لترميم البنايات القديمة في ولاية البليدة، خاصة البنايات العتيقة في الدويرات والجون اللتين تمثلان أولى بنايات عاصمة الولاية.
وأردف المتحدث في هذا الصدد: «مؤسف جدا ما يحدث، فرخص الهدم تسلم بسهولة وكثير من البنايات القديمة في البليدة تمّ هدمها لأنها غير مصنفة وملك للخواص، ونأمل في إصدار قانون التعمير الذي أمر رئيس الجمهورية بفتح ورشات لتعديله وانطلقت منذ أشهر، فهذا القانون هو الذي سيُصنف المدن والبنايات القديمة بضمان حماية طابعها المعماري والجمالي».
وأوضح عاشور الذي يعتبر مهندسا معماريا: «يتعين على الدولة إيجاد الحلول المناسبة لحماية البنايات القديمة، ولفرض معايير خاصة في البناء، كأن تشتري مثلا بناية عتيقة من ورثتها لتقوم بترميمها، أو تقدم إعانات لأصحابها لترميمها بالنمط المعماري الأصيل دون إحداث تغييرات عليه».
في الوقت نفسه، دعا إلى ضرورة فتح تحقيق عمومي لتصنيف البنايات القديمة في مختلف بلديات البليدة وفصلها لوحدها، ذلك أنّ مخططات تهيئة العمران وشغل الأراضي في غالب الأحيان تقوم بها «مكاتب دراسات غير مؤهلة»، بحسب تعبير المتحدث.
وأضاف عضو الغرفة العليا للبرلمان: «ترميم البنايات القديمة يقتضي توفير إمكانيات كبيرة، خاصة وأنّ ترميم بناية يستهلك أموالا أكبر من التي ننجز بها بناية جديدة، والمشكل أنI البنايات القديمة هي ملك للخواص; وهناك من يستأجرها لعدد من العائلات، وإذا ما أردنا ترميمها يجب ترحيل هذه العائلات، فنجد أنفسنا أمام مشكل حقيقي آخر، وهذا ما يجب أن نأخذه بعين الاعتبار في التشريعات الجديدة».
وفي هذا الإطار، يقول أيت سعدي: «لابد من وضع أدوات للتعمير، وفرض معايير جديدة للبناء لإلزام المرقيين العقاريين والشركات المقاولة بحماية الطابع المعماري للمدن القديمة».

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024