في وسائل النقل أو الأماكن العمومية

الغرباء «ملاذ» كثيرين لتفريغ الهموم وراحة النفس

غياب الحوار والتواصل أعطى الأولوية لـ «الغريب» لمكاشفة الأسرار

بالرغم من وجود عائلة وأصدقاء، يلجأ البعض الى الفضفضة الى الغرباء بعيدا عن معارفه ومحيطه خوفا من تبعات قد تكون سببا في قلب حياته رأسا على عقب، وفي ظل غياب الحوار والتواصل المثالي في مجتمع أصبح يؤمن بالفردانية يتجه البعض الى الغرباء لتفريغ آهاتهم وآلامهم النفسية التي يعيشونها في صمت، وسواء في وسائل النقل أو الأماكن العمومية يجد كثيرون في المجهول المصغي الآمن لأسرارهم.

 
آذان صاغية..

لم تكن تعرف حتى اسمها عندما جلست إلى جانبها في مقعد الطائرة المتوجهة إلى احدى الولايات الداخلية، أمضت خلالها أكثر من ساعة شاركت فيها شريكتها في المقعد أخبار الطقس والسياسة والاقتصاد، حتى تحولت الرحلة إلى جلسة فضفضة وبوح استمتعت بها الثلاثينية أنيسة.
كانت رحلة مختلفة بالنسبة لها؛ إذ كانت بحاجة إلى مشاركة همومها ومخاوفها وكذلك آمالها وطموحاتها مع مستمع جيد لن يلومها ولن يراجعها بما قالت، ولن يأتي يوم ويسألها لماذا.
بعد أكثر من ساعة أمضتها أنيسة في الفضفضة مرت وكأنها دقائق، أيقنت حينها أنها كانت شديدة الحاجة إلى تلك المحادثة التي أزاحت حملا عن صدرها، وخففت عنها كثيرا، وترى أنها كانت تبحث عمن يسمعها دون أن يجادلها.
ليست هي وحدها من تفضل مجالسة الغرباء والفضفضة لهم، فقد وجد الخمسيني أحمد مستمعا جيدا له شاركه المقعد في الحافلة المتجه من الجزائر العاصمة إلى برج منايل.
وبدأ حوار احمد مع اللحظات الأولى من انطلاق الحافلة، ولم يتجاوز الحالة الجوية وأسباب زيارة كل منهما لبرج منايل حتى بدأ كلاهما الحديث عن مشاكل العمل والغلاء المعيشي، ومتطلبات البيت التي لا تنتهي، ومشاكل الأبناء التي تكبر كل يوم.
ويقول احمد «لست من الأشخاص الذين يجيدون الكلام مع الغرباء أو حتى يتقنون فن الفضفضة.. ولكنني كنت بحاجة إلى ذلك الحديث كثيرا، وكان مجديا».
الراحة التي شعر بها هذا الراكب أثناء حديثه جعلته يتحدث دون قلق أو خوف، فلم يتوخ الحذر بأن يحاسبه هذا الشخص أو حتى يعاتبه في يوم من الأيام، فقد نزل من الحافلة بعد أن ودعه وهو على يقين بأنه لن يقابله من جديد.
«حديث الغرباء»، هكذا أطلقت عليه الثلاثينية سامية- ب التي كانت تحمل في داخلها تجارب فاشلة عدة جعلتها تعيش فترة قاسية من لوم من حولها والباحثين عن مسؤول عن هذا الفشل، حتى اختارت أن تبقي هذه التجارب دفينة في داخلها ولا تشاركها مع أحد.
كان ذلك حتى صبيحة أول يوم انضمت إليه لحضور أحد المؤتمرات في تركيا، تقابلت به مع ضيفة من خارج البلد، تشاركت معها الإقامة بالغرفة ذاتها، رغم أنها لم تكن من قبل تفضل هذه المشاركات.
خمسة أيام أمضتها سامية برفقة زميلة من بلد آخر تعرفت عليها للمرة الأولى، لكنها شاركتها همومها ومشاكلها العاطفية والعائلية ووجدت نفسها دون أن تشعر تبوح لها بالكثير من المواقف الصعبة التي آلمتها واللحظات الصعبة التي لا تفارق ذاكرتها وذرفت من الدموع ما يكفي لتهدئة نفسها.
« لم تكن مجرد زميلة من بلد جديد تعرفت عليها، بل على العكس تماما لقد كانت طبيبي النفسي ومرشدي الاجتماعي»، حسب قولها، فقد استشارتها في الكثير من الأمور العالقة في حياتها التي لم تكن تقوى على البوح بها أمام أقرب الناس لها.
بعد مضي 5 أعوام على تلك الفضفضة، ما تزال نصائح زميلة سامية عالقة في ذهنها، وما تزال تلك الفضفضات في بئر عميقة رغم أنهما تقابلتا مرارا وتكرارا بعد ذلك، لكن لم تعد كلتاهما للحديث مجددا عن المواقف الصعبة.

فضفضة..

يلجأ بعض الأشخاص الذين ينوء بهم الحمل إلى الفضفضة مع أول شخص غريب قد يقابلونه صدفة في رحلة قطار، أو في مقهى ببلد غريب لن يعودوا إليه في القريب، أو زميل المقعد في رحلة طويلة بالطائرة، المهم أنه يكون شخصا مضمونا أنهم لن يلتقوا به مجددًا في الحياة.
وقد أشارت إحدى الدراسات التي أجريت حديثًا في جامعة هارفارد الأمريكية، إلى أن الأسباب التي تجعل الناس يثقون في البوح بمواضيعهم الحساسة الخاصة إلى الغرباء، تعود إلى الشعور بالوحدة واليأس والحاجة إلى من يصغي إليهم دون إصدار أي أحكام مسبقة ضدهم، وكذلك لثقتهم بأن الغرباء لن يفشوا أسرارهم لأحد.
وأشارت الدراسة إلى أن الناس يلجؤون للفضفضة مع الغرباء لعدم قدرتهم على التحدث مع المقربين في مواضيع قد تؤذيهم مثل الخيانة الزوجية وغيرها، فضلا عن عدم معرفتهم الأشخاص الذين هم محور الحديث، الأمر الذي يشجع الناس على البوح والفضفضة براحة للحصول على النصيحة.
ويفضل البعض، بحسب الدراسة، الاعتراف لشخص غريب عن الأخطاء الشنيعة التي يرتكبونها وتشعرهم بالخجل من أنفسهم عوضًا عن إخبارها للمقربين إليهم.
ويشير النفسانيون إلى أن اللجوء للحديث إلى الأشخاص الغرباء أمر في غاية الأهمية ويحتاجه الشخص في كثير من الأحيان، وهي حاجة إنسانية لكل من الرجل والمرأة في الفضفضة والبوح لتفريغ الأزمات والضغوطات التي يتعرض لها الفرد في حياته.
ويلجأ الكثيرون للغرباء وتنجح في كثير من الأحيان، إلا أنه وفي عصر الانفتاح الذي نعيشه اليوم، فكثير من الأحيان تتقاطع العلاقات، ويرتبط الكثيرون في علاقات مشتركة مع بعضهم بعضا، وبالتالي فإن الفضفضة مع هؤلاء الأشخاص قد تلحق الأذى النفسي وتسبب حساسية اجتماعية لصاحبها.

الحذر واجب

ولفت المختصون إلى ضرورة أن يحذر الشخص من الفضفضة والبوح إلى الغرباء، ففي كثير من الأحيان يكشف البعض عن أسرارهم ويعرضون أنفسهم أمام الآخرين، الذين قد يستخدمونها ضدهم في يوم ما أو حتى يتناقلونها أمام معارف مشتركة.
والأصح هو البحث عن إشباع الحاجة الإنسانية واللجوء إلى الفضفضة للشخص المناسب، لا قريب ولا غريب، بمعنى أن يكون شخصا آمنا أو مختصا أو الاثنتين معا، وهو الأفضل، فـ «لابد من اختيار الشخص المناسب لممارسة حاجتنا الإنسانية بالبوح»، حتى يستقبل بعد تفريغ الملومات والفضفضة وإخراج كل ما في داخل الإنسان حلولا منطقية ومقنعة وليس فقط الحديث دون فائدة.
يجب اللجوء إلى شخص آمن أو مختص، فلابد من التأكد من درجة الأمان والبوح تدريجيا لقياس مدى مأمونية الشخص المقابل، ولابد من أن يكون هناك مساحات شخصية يحافظ عليها الشخص داخله ولا يعري نفسه مباشرة.
ففي كثير من الأحيان، يلجأ البعض إلى الفضفضة من أجل الحديث والبوح فقط ولا يحتاج إلى نصيحة أو حلول، ولكن هي الرغبة بالحديث، وإنما يبحث عمن يسمعه دون أن يسأله أحد أو يقدم له النصيحة حتى تتحقق الفائدة من البوح والفضفضة للشخص المضغوط ويشعر بعدها براحة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024
العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024