بسبـب وعـورة التضاريــس

”الشوّالـة”.. خيــار الفلاحــــين لحصـــاد محاصيلهم

حرفـة الحصــاد التقليـدي تجسّد قيــم التضامن والتعــاون في المجتمـع

تفرض طرق الحصاد التقليدية نفسها باعتبارها تراثاً متوارثاً، ضمن كثير من العادات والتقاليد، في كثير من مناطق الوطن، خاصة في المناطق التي تتميز بصعوبة تضاريس أراضيها، والتي تحافظ على قوة التكافل والتضامن الاجتماعي بين ساكنيها، والذي يكون بارزاً في مواسم الحصاد.

«الشوّالة”..”مظل” و«منجل” 

في مهنة ورثوها عن الأجداد، لا تزال حرفة “الشوّالة” (مهنة الحصاد التقليدي) منتشرة في الكثير من المناطق، فرغم أنّ هذه الحرفة الزراعية القديمة تعتمد على الجهد العضلي والأدوات التقليدية في حصاد المحاصيل، وفي مقدمتها المنجل، فإنّ كثيراً من الجزائريين يتعلقون بها في المناطق الوعرة والجبلية التي يصعب على آلات الحصاد الوصول إليها، ما يضطر الفلاحين إلى الاستعانة بقوّة السواعد والدواب.
 كما يظهر التضامن والتعاون فيما بينهم، من أجل جمع محصول الحبوب، في ظل مناخ حار وظروف طبيعية قاسية، تخفّف من وطأتها تلك الأهازيج والأغاني الشعبية والمدائح الدينية التي يردّدها الفلاحون خلال العمل، فضلاً عن انتشار روح المنافسة فيما بينهم، والتسابق على من يتمكن من حصد أكبر كمية من حزم السنابل.
تمتلك عائلة فتاتة قطعة أرض فلاحية في أعالي منطقة الجبابرة بمحافظة عين الدفلى (120 كيلومتراً غربي العاصمة)، ومع حلول نهاية شهر جوان من كل عام، تستعد العائلة لبدء موسم الحصاد الذي يشارك فيه كل أفراد العائلة، برفقة عدد من أقاربهم وبعض معارفهم، ضمن طقوس الحصاد التقليدي التي تستمر لأيام عديدة، لهكتارات قليلة من سنابل الشعير والقمح والبرسيم، تحوزها العائلة في المنطقة الجبلية التي يصعب وصول آلات الحصاد إليها.
يقول كبير العائلة، محمد فتاتة إنّ “هذه العادة لم تنقطع منذ سنوات طويلة، وقد ورثناها عن آبائنا وأجدادنا، وتعلمناها منذ كنا صغاراً، لم ننقطع عن خدمة أرضنا، إذ نجتمع في كلّ موسم لبدء حصاد ما زرعناه من مختلف أنواع الحبوب، والجميع يشارك في الحصاد، الرجال والنساء والأطفال، ويشارك الأقارب والجيران أيضاً ضمن تقاليد التضامن والتكافل”.
يضيف شقيقه رابح فتاتة: “ما يفرض علينا اللجوء إلى الحصاد باستخدام الوسائل التقليدية، مثل المنجل والدواب، هو أنّ بعض المساحات المزروعة لا تصل إليها آلات الحصاد كونها تقع في مناطق وعرة، لذا نضطر إلى حصدها بالأيدي، ورغم صعوبة ذلك، فإنّ الحاجة دفعتنا إلى الاعتماد على الوسائل التقليدية التي لا بديل عنها، خاصة أنّنا نعيش في منطقة تعتمد بشكل كبير على الوسائل التقليدية في ممارسة النشاط الفلاحي، إضافة إلى أنّنا نحاول جاهدين الحفاظ على تلك العادات المهدّدة بالاندثار”.
وللحصاد التقليدي طقوس وأشكال ووسائل وأهازيج متعدّدة، ويعدّ منظومة متكاملة من العمل، إذ يستعمل الحصادون صدرية جلدية وقفازات، وقبعة “مظل”، مصنوعة من الدوم، لتحمي رؤوسهم من لفحة الشمس الحارقة، إضافة إلى المنجل، وهو الأداة الرئيسية في عملية الحصاد.
يقول جلول ملياني، وهو فلاح يعيش بأعالي منطقة “وادي جر” بالبليدة (150 كيلومتراً غربي العاصمة): “ننهض باكراً في هذه الفترة، ونتوجه برفقة الإخوة والأصدقاء إلى الحقول، حيث نبدأ عملية الحصاد، ونعمل على تجميع السنابل معاً، ما يسمى محلياً بـ “الغُمر”، نضعها مع بعض على شكل مجموعات كبيرة، كل ذلك بينما نقوم بترديد أغان قديمة عبارة عن أشعار محفوظة تتعلق بالحصاد والبيئة، ثم نشرع في الصلاة والسلام على الرسول كي يغيثنا الله بنسمة هواء باردة منعشة تخفّف علينا حرارة الشمس”.
يضيف ملياني: “بعد حصاد السنابل وتجميعها معاً على الأرض، نقوم بجمعها بواسطة قاطرات الجرارات بعد الحصاد، وحملها إلى مكان (الدرس) الذي يعرف بـ(الرحبة)، وفي بعض الأحيان نعتمد على الحمير أو البغال في النقل، وبعد نقلها إلى الرحبة تترك لتجف، ثم يجري الدرس، ونستخدم الرياح لتصفية الغلة، ثم نخصّص كمية من الحبوب للزكاة، وتجمع بقية الحبوب في أكياس نخزنها في أماكن مخصّصة لذلك، أو نحولها إلى المطاحن العمومية القريبة”.
تتكرر مشاهد الحصاد ونقل السنابل والدرس بالطرق التقليدية في جميع المناطق المعروفة بتضاريسها وطبيعتها القاسية، ومن بينها غيلزان، والبيض، وتيسمسيلت، والجلفة، وعين الدفلى، حيث تفرض الطبيعة على العائلات الحفاظ على العادات الخاصة بالحصاد التقليدي، وبالتالي على الأهازيج المصاحبة له.

«يا مشعشع الأرض البيضة”..تباشير الخير
وفي الغالب تكون عملية الحصاد الجماعي ممزوجة بأغان شعبية، إذ يردّد الحصادون على سبيل المثال، طقطوقة “صلوا على محمد. صلوا عليه وزيدوا. جميع من ذكر محمد. يا رب بالخير تزيدوا”، وتقول طقطوقة أخرى “يا مشعشع الأرض البيضة. يا مغذيها بالأمطار. لا تخيل على نبينا. لا تعذب أحد بالنار”.
ويعتبر الحصاد التقليدي والأهازيج المصاحبة له تعبر عن عمق الموروث الثقافي الشعبي للمجتمعات المحلية، فهذه الأهازيج الغنائية المتوارثة جيلاً بعد جيل تعبر عن بعض التفاصيل الاجتماعية لهذه المجتمعات، كما تروي بعض القصص أو الوقائع أو المواقف، ويمكن أن تعبّر عن التكافل الاجتماعي الذي لا تزال تحافظ عليه كثير من المناطق الجزائرية.
فيما يُعبر استمرار مزارعي المناطق الجبلية في الحفاظ على هذه التقاليد خلال فترات الحصاد وجمع المحصول الزراعي عن قوة الشخصية، ويظهر تمسّكهم بأرضهم، خصوصاً بالنسبة للعائلات التي هجرت قراها ومداشرها نحو المدن خلال (العشرية السوداء)، والتي عادت إليها من جديد، والأهازيج الخاصة بالحصاد التقليدي هي جزء من التراث غير المادي، والذي يعبر عن ارتباط الفرد بتاريخه وثقافته المحلية، على الرغم من كلّ التغيّرات الاجتماعية التي طرأت على المجتمع خلال السنوات الأخيرة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024