الألعاب الشعبية..

مـوروث شعبي يقـاوم الاكتساح التكنولوجي

الألعاب الشعبية جزء لا يستهان به من عادات أية شعب بما فيه الجزائري، فمن منا لا يحن إلى ذلك الماضي البعيد، إلى أرجوحة ركبها أو كرة شارك في صنعها أو عروسة من بقايا قماش كانت هي البداية الأولى لرسم تقاسيم المستقبل كما يراه صاحبه آنذاك.. فهي وما يصاحبها من أناشيد وحركات ولغة وسلوكيات تبقى موروثا حيويا من تراث أجدادنا.

ألعاب رقمية وهمية
 نعيش في وقتنا الحاضر في عالم متغيّر يختلف كثيرا عما كان عليه من قبل، إنه عالم تكنولوجيا المعلومات المتقدّمة والفائقة والرقمية، التي غيّرت المجتمع من مجتمع صناعي إلى مجتمع معلوماتي رقمي، فجعلته مجتمعا متطورا في جميع المجالات وجميع التخصصات، وسرّعت من التعاملات اليومية للأفراد ونشرت الكثير من الثقافات الرقمية التكنولوجية حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ من العالم الواقعي الحقيقي.
إن الألعاب الشعبية ليست حكرا على الصغار فقط، فالكبار أيضا لهم حظ منها، وهي قاسم مشترك بين الصبيان والبنات، فبعضها ألعاب صبيان وبعضها يقتصر على البنات، والبعض الآخر يشترك فيها الطرفان، ولكل لعبة موسمها ولكل طبيعة جغرافية أو ولاية أو منطقة من ولايات الوطن وألعابها الخاصة بها أيضا، فهذا عمي “العربي” الذي وجدناه بمحله بأحد شوارع العاصمة منهمكا في مهنة الحدادة التي تعلمها عن والده، وهو يهز رأسه مع حسرة على أمس لم يعد بالقريب، لكن رغم ذلك فهو لازال يحتفظ بأحجار لعبة “الدومينو” بمحله الذي لا زالت كل زاوية من زواياه تروي حكاية لا تنتهي، كما لم تنسه تجاعيد وجهه وشيب رأسه لعبة “السيق”، “الكرة الحديدة”، “شبشاق مريكان” و«الغمايضة” وغيرها من الألعاب الشعبية.
وتسأل حسينة أم لثلاثة أطفال أكبرهم لا يتجاوز الثماني سنوات عن المتعة المفقودة في ألعاب الكمبيوتر و«البلاي ستايشن” فتجيبك قائلة: “لا أعرف ما المتعة التي يجنيها أطفالي من هذه الألعاب الوهمية، ولا يمكنني الوصول إلى حقيقة الطفولة في هذه الشاشة الافتراضية، فمن المستحيل أن يتمكّن الطفل من الوصول إلى تلك المتعة التي لازمتنا في سنوات الصغر”.
 فيما يجيب سمير تلميذ بالمتوسط 14 سنة ساخرا من هذه الألعاب،” أين الجمال في الركض وراء بعضنا مثل المجانين في لعبة بهدف لمس هذا وذاك، وما المتعة التي سأجنيها عندما يفشل صديقي في لمسي بعد أنا أُنهكنا أنا وهو، إنها سخافة ولا يمكنني أن أمضي وقتي في الركض دون فائدة؟”.
ويبدو أن كثيرا من الأطفال اليوم يتبنون رأي سمير، وهذا لعدة اعتبارات، فوليد الذي يدرس في المتوسّط أيضا يفضل ورغم صغر سنه الألعاب الإلكترونية على الألعاب الشعبية اليدوية، فضلا عما تعرضه مواقع التواصل الاجتماعي كالفايسبوك من ألعاب كالمزرعة السعيدة الجديدة، حيث تعتبر الألعاب من أهم الأشياء التي تجعل من زوار الفايسبوك يستمرون باستخدامه خصوصا مع وجود ميزة إرسال الدعوات للأصدقاء واللعب الجماعي، فـ«سمير” يضيف أنه لا يمكنه أن يتصوّر نفسه حاملا لمقص مثلا وبعض المستلزمات من أجل صنع لعبة يدوية ما أو مشاركة زملائه في المدرسة في حصة الأشغال اليدوية، فيما راحت سهيلة تشاطره ذلك، مؤكدة أن الحاسوب في الوقت الراهن يمكنه أن يحقق لها المتعة والفائدة من غير ملل وفي ظرف وجيز.
فيما تتحدث خالتي بركاهم عن عشقها لهذه الألعاب فتتذكر أيام طفولتها عندما كانت تجتمع مع أقرانها في ساحة منطقتها وكان كل الأطفال يعرفون بعضهم البعض، فيجتمعون بالقرب من البيوت حيث لا يبتعدون كثيرا عنها فيلعبون ألعابهم الشعبية المفضلة لديهم بكل أمان وطمأنينة لأنه لا يوجد غرباء بينهم وهو ما لا توفره الألعاب الحديثة في نظرها.
وتعود خالتي بركاهم لتتحدث عن عشقها فتصف الألعاب الشعبية بأنها ألعاب جماعية ساعدت أقرانها على التعارف على بعضهم البعض وتشكيل جماعة من الأصدقاء الذي يخرجون معا بشكل جماعي.

ألعاب من الماضي
من بين تلك الألعاب الشعبية نجد “شكارة بوشونات” وتعتمد اللعبة على السرعة والحركة ودقة التصويب، ويشترك فيها مجموعة من الأولاد على شكل فريقين، ويتراوح عدد كل فريق ما بين ثلاثة إلى أربعة لاعبين فما فوق، حيث يتمّ إحضار عدد من صمامات للمشروبات الغازية، وإذ لم تتوافر يتمّ الاستعاضة عنها بمجموعة من الأحجار الصغيرة والتي يسهل وضع الواحدة فوق الأخرى.
أما “الكريدة” فيمارسها الأولاد والبنات ويشارك فيها لاعبان إثنان ويتعدى ذلك في مناطق أخرى، تستعمل فيها بين خمس وسبع أحجار من الحجم الصغير، تتكون من مراحل مختلفة لكل واحدة منها وقاعدتها الخاصة التي يجب الاحتكام إليها، حيث يحين دور اللاعب الثاني مباشرة عند خسارة الأول وهكذا.
ويعتبر “الدومينو” الرقم واحد بدون منازع، حيث يلجأ العاصميون شبابا وكهولا إلى هذه اللعبة سواء في المقاهي أو أمام العمارات والشوارع، على غرار وليد والصادق وعمي موسى والحاج حميد تمشي في عروقهم ويعشقونها حتى النخاع، إذ لا يمكنهم الاستغناء عنها مهما حصل، خاصة وأنهم كبروا وتربوا عليها، ويلعبونها جماعة يحضرون في حالة ما إذا اختاروا الشارع مكانا للعب طاولة وكل واحد منهم يحمل كرسيه في يده مع فنجان قهوة أو شاي ثم يكوّنون مجموعة من أربعة أشخاص، ليبدأ بعدها مباشرة اللعب الذي لا يمكن أن ينطلق إلا بوجود أحجار الدومينو، هي لعبة مشهورة منذ القديم في أوساط الجزائريين، حيث يلعبها الكبار والصغار شباب وشيوخ على مدار السنة.
ولا يمكن الحديث عن الألعاب الشعبية بعيدا عن “الغمايضة” اللعبة التي يلعبها الأطفال، يبدأ أحدهم بالعد ووجهه على الحائط بينما يختبئ باقي الأطفال في أماكن مختلفة، وبعد أن ينتهي من العد يذهب للبحث عنهم، وعندما يرى أحدهم يقبض عليه ويضع يده على مكان العد، وإذا رآه اللاعب وسبقه لذات المكان العد يكون قد تغلب عليه حتى تنتهي اللعبة، ومن تمّ معرفة مكان اختبائه بالأول يعد وهكذا دواليك، ويختلف اسم اللعبة وقواعدها من منطقة إلى أخرى.

التكنولوجيا والألعاب الشعبية
وحول الأبعاد المهمة لاستمرارية صناعة مثل هذه الألعاب الشعبية، يقول المختصون إنها ألعاب جماعية تساعد الطفل على الاندماج في مجتمعه ومع أبناء منطقته وجيله من أبناء الأقارب والجيران، عكس ألعاب الفيديو التي تحث على الانعزال والعنف وتشجّع على التمرّد على قيم المجتمع بحكم أنها مستوردة وتنقل ثقافات غربية.
 لكن أطفالنا اليوم مع وجود هذه الألعاب التقنية التي تعرضها التكنولوجيات الحديثة أصبحوا لا يعرفونها فقط ويكن إعادة إحياؤها بمبادرة من الأسر ومؤسسات التنشئة الاجتماعية خاصة منها الثقافية، فهذه الألعاب تعتبر أيضا ألعابا اجتماعية تساعد الطفل على التعارف وتكوين الصداقات وهي ألعاب تعوّد الطفل على الاعتماد على نفسه وغالبا ما يقوم الطفل بصناعة ألعابه بنفسه، فيتعلم كثيرا من المهارات كالابتكار وتعلم المهارات الحرفية والحركية.
ومن المميزات الأخرى للألعاب الشعبية التي تتحدّث عنها الأستاذة، أنها تعلم الأطفال الجرأة والشجاعة وبعض الألعاب تنمي مهارات التفكير لديهم والأخرى تنمي المهارات الحركية لدى الأطفال وأيضا تنمي هذه الألعاب لدى الأطفال الدقة واحترام القواعد والأنظمة، وقبول الأمر الواقع وتقبل الهزيمة بروح رياضية والتحدي بأسلوب مسالم بلا عدوانية.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024