كما لم تعرفها من قبل

جولة في قسنطينة عبر جسورها الفاتنة

تقع على بعد 400 كلم شرق العاصمة الجزائرية، تعرف بمدينة الصخر العتيق، مدينة العلم والعلماء والتراث، مدينة الجسور المعلقة، إنّها “قسنطينة”، المدينة التي تربطها الجسور المُشيدة على مجموعة صخورٍ وتلال شبيهة بمدينة “ريوماجيوري” الإيطالية أو “فيليكو ترنوفو” البلغارية أو “روكامادور” الفرنسية والقائمة طويلة.
هذه المدنية سكنها الإغريق والوندال أو الفاندال (إحدى أهم القبائل الجرمانية الشرقية، اقتلعوا أجزاء من الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي وأسسوا لهم دولة في شمال إفريقيا)، وأيضاً قطنها الرومان والإغريق والعثمانيون واليهود والمسيحيون على مدى سنوات.
إضافة إلى رحابها وهي عبارةٌ عن أمكنةٍ واسعة تستغل لأغراضٍ تجاريةٍ، تباع فيها مختلف السلع والبضائع كالملابس والأقمشة وغيرها، كـ “رحبة الزرع” التي تتوسط المدينة وتباع فيها الحبوب والتمور والزيوت، وأيضاً “رحبة الشبرليين” و«سوق الخرازين” و«سوق العطارين” و«سوق الصاغة”، وهناك أيضاً “سوق العصر” و«سوق الجمعة و«سوق بومزو” الذي يعود تاريخ تشييده إلى عهد الاستعمار الفرنسي يقع بمُحاذاة ساحة أول نوفمبر.
ولعل أهم ما يُميز هذه الشوارع الملتفة الضيقة شواهدها ومبانيها التاريخية المُعبقة برائحة “ماء الورد” أو “الماء المقطر” أو “ماء الزهر” المُستخلص من زهرة “اللارنج”، يستعمل في تحضير “مُعسلات قسنطينة” كبقلاوة “باب العالي”، وهي حلوى تقليدية جزائرية قدمها “باي قسنطينة” كهديةٍ للحاكم العثماني وكانت تتكون حسبما هو متداول بين طهاة المنطقة، من أكثر من 15 طبقةٍ يتخللها الجوز القسنطيني، دون أن ننسى “المقروط القسنطيني” و«الجوزية القسنطينية”، وهي عبارةٌ عن حلوى تُقطع على شكل مكعباتٍ صغيرةٍ تجاوزت أقطار الوطني بسبب ذوقها الاستثنائي، وتعد من أفخر وأرقى الحلويات التي تشتهر بها المنطقة.
وفي كل زاويةٍ من زوايا هذه الشوارع تصدح أغاني “المالوف القسنطيني” التي تحملك عبر الأزمان والمشاعر، معظمها تعود لـ “الحاج الطاهر الفرقاني”، أشهرها “قالوا لعرب قالوا” و«يا ظلمة” و«البوغي” التي تروي حكاية مغني مالوف يعرف بـ “جاب الله” وقع في عشق شابةٍ من المحافظة اسمها “نجمة”، غير أن ظروفاً معينةً حالت دون زواجهما، ولاحقاً شاءت الأقدار أن يسافر المغني ليُغني في حفل ختان ابنها، بحيث أدّى أغنيةً يروي فيها قصة حبه المستحيل ثم انكشف أمرهُ وتحوّل الحفل إلى مأتمٍ بمقتله.
ثماني جسور معلّقة
 جسر القنطرة واحدٌ من أشهر جسور هذه المدينة الجميلة، وهو أول جسورها، يعود تاريخ تشييده إلى التواجد الروماني بالجزائر، ثم أعيد ترميمه خلال فترة الوجود العثماني، إذ قرّر خلال تلك الفترة حاكم المدنية صالح باي بناءه من جديد.
وكان الجسر من بين الأهداف التي حاول الغزو الفرنسي نسفها، غير أنه فشل في ذلك، لكنهم نجحوا بعد ذلك إذ انهار الجسر بعد مرور قافلة كبيرة من مُشاة الجيش الفرنسي، غير أنهم أعادوا تشييده وعادت الحياة إليه سنة 1836، ولا يزال موجوداً إلى يومنا هذا، فالجسر تعاقب عليه النوميديون والرومان والوندال.
في هذا المكان الذي يعتبر من أشهر الأماكن السياحية في قسنطينة التي شهدت ميلاد عددٍ كبيرٍ من العلماء والمفكرين الإسلاميين، أشهرهم عبد الحميد بن باديس مؤسّس جمعية العلماء المسلمين الجزائرية، وحتى المفكر مالك بن نبي الذي يعتبر من أحد أبرز أعلام الفكر الإسلامي العربي في القرن العشرين وحتى في العصر الحديث، وتنتمي إليها أيضاً الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي، يخترقك شعورٌ خاصٌ، فكل ما هو فيك يبتسم ويشد، يصيح ويغني ويصنع أجمل الألحان، فأنت في أجمل موقعٍ عالمي يمكنك من خلاله رؤية أجمل غروبٍ وشروق شمسٍ في الوطن.
جسرٌ آخرٌ من جسورها العتيقة، أغرب ما فيه تسميته، يُلقّب بجسر “الشيطان” ولم يسمى هكذا نسبةً إلى ذلك الكائن الخارق للعادة الذي يعتبر تجسيداً للشر، بل سماه السكان المحليون بهذه التسمية نسبةً إلى الأصوات التي تنبعث من أسفل الجسر، تعود لصوت المياه المتدفقة بقوة على أطرافه، وصوت تدحرج الحجارة أسفل منحدر التل، وهي أصواتٌ تجعل المارين على الجسر يشعرون بالخوف والرهبة، خاصة إذا كان الطقس ممطر والرياح تعصف من كل حدبٍ وصوبٍ.
ثالث جسرٌ تشتهر به قسنطينة هو جسر وادي الرمال، الذي يعتبر من أغرب الجسور الثمانية التي تمتاز بها الولاية بسبب طريقة هندسته، فهو مُعلق بين صخرتين فقط لا غير مسنودٍ بأية دعائم، فالمار فوقه يحس بأنه معلق بين السماء والأرض يسير فوق الهواء، فيتراقص الجسر وجسدك معاً عندما تهب الرياح.
استغرق بناء هذا الجسر ثلاث سنوات كاملة وفُتح أمام المارة عام 1912، وهو يربط بين منطقتين استراتيجيتين وهما “القصبة” والمستشفى الجامعي”، ويعتبر من أعلى الجسور في الجزائر كلّها، إذ يبلغ طوله 164 متراً وارتفاعه 175 متراً.
رابع جسرٌ هو جسر سيدي راشد، الذي شُيّد خلال فترة الاستعمار الفرنسي، وكان ذلك عام 1907، لا يختلف إطلاقاً عن الجسور الرومانية العتيقة، فهو مبني بالحجارة المصقولة باليد، مثل جسر “جندرة” الذي يعتبر من أقدم وأهم الجسور التاريخية، يقع في منطقة “أديبامان” في جنوب شرق منطقة الأناضول، بُني في عهد الإمبراطور الروماني “سيبتميوس سيفيروس”.
ولعل أبرز ما يميز هذا الجسر الدعامات التي تحمله، ويبلغ عددها 27 دعامة، شُيّدت على شكل أقواس ويرتفع بـ 105 أمتار، فيما يبلغ عرضه 12 متراً، وبُني هذا الجسر فوق وادي من الرمال الذي يخترق المدينة كلّها.
ويُطلق على الجسر الخامس “المصعد” باللغة الفرنسية ويُلقب محلياً بـ “الصونصور”، وسماه الفرنسيون بجسر “بيريقو” نسبة إلى المهندس الفرنسي المشهور، ويربط الجسر بين محطتين هامتين في قسنطينة المحطة الأولى هي السكك الحديدية ووسط المدينة.
سادس جسرٌ هو جسر مجاز الغنم، سمي هكذا نسبةً إلى حي سكني قديم، وهو امتدادٌ لشارع رحماني عاشور، ونظراً لضيقه فهو أحادي الإتجاه.
أما سابع جسرٌ فهو الجسر العملاق، به طريقين ذهاباً وإياباً وسكتي “ترامواي” وسط الجسر، ويقع على ارتفاع أكثر من 100 مترٍ، يمتد من مرتفعات “حي المنصورة” إلى “حي جنان الزيتون”.
وثامن جسرٌ فيُطلق عليه جسير صالح باي، بناه البرازيليون بين سنتي 2010 و2014، وفُتح للمارة والمركبات في يوليو 2014.
وبفضل هذه الجسور صُنّفت قسنطينة من جانب مجلة “يو إس أي توداي” الأمريكية ضمن قائمة المدن العالمية المنصوح بزيارتها، وتبنّت المجلة الأمريكية تجربة المستكشف “سال لافالو”، الشاب الأمريكي الذي زار جميع الدول 193 الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024