قصــّتي مع السّـرطان

المـشـرط قلب حياتـي رأسا عــلـى عـقـب

سبعة أيام مضت منذ أن دخلت “صفية” غرفة الفحص والتشخيص بالمستشفى، سبعة أيام من التحاليل المتواصلة وصور الأشعة والموجات الصوتية، ولم يتوصّل الأطباء إلى قرار بشأن حالتها بعد، صفية تراقب الحياة من خلال نافذة صغيرة في غرفتها بالمستشفى، تطل على منزل صغير جدرانه الخارجية بيضاء بالكامل، يحرص أصحابه على الزهور والنباتات التي تطل من الشرفات والنوافذ والاسطح وتعلق هي بصرها عليها طوال النهار..لا يأتيها من العالم الخارجي إلا برودة الجو التي تصل حد الصقيع لتتكور دواخلها أكثر خوفا من القرار المرتقب.

لا ترفع بصرها إلا عند دخول الممرضة لأخذ عينة أو قياس الضغط أو الحرارة..تنظر إلى الممرضات طويلا حتى أنهن لاحظن ذلك، لم تكن تهتم ببشرتهن البيضاء التي تختلف عن بشرتها المائلة للسمرة بطبيعة الحال، ولا إلى شعورهن الطويلة الشديدة السواد، فهي تنتظر قرارا باستئصال ثديها الأيسر على الأقل، أو كلاهما معا بسبب داء السرطان اللعين، ومن ثمة تحديد فرصها في الحياة والنجاة من الموت والمرض الفتاك.
قبل عام وثلاثة أشهر كانت “صفية” في عيادة خاصة، ممددة على طاولة الفحص خلف الستارة، والطبيب يتحسّس ورم أو (حبة) في مقدمة ثديها الأيسر، بعد أن أشارت إليه بيدها، طلب الطبيب منها في نهاية المقابلة وبعد عدد من الأسئلة أن تقوم بأخذ عينة من الورم، وفحص الخلايا السرطانية.
انزعجت لقرار الطبيب على الرغم من أنها كانت تضع مثل هذا القرار ضمن حساباتها، لأن الشك هو الذي دفعها لزيارة الطبيب، زوجها “حسين” أيضا أنزعج و حاول أن لا يبدو كذلك على الأقل أمامها ، الدكتور طمأنهما وبسّط لهما الأمر بأنه إجراء روتيني للتأكد من عدم وجود خلايا سرطانية.
تمّ أخذ العينة في ذلك المساء القلق، كان سيد الموقف بالكاد تأكل وبالكاد ينامان آخر الليل، وحدهما من يعلمان بأمر العينة إلا أن “صفية” لم تحتمل كتم السر، أخبرت شقيقتها في مساء اليوم التالي ولكنها ندمت على فعلتها، فشقيقتها دخلت في مناحة طويلة رغم ذلك حلفت بالله أنّها لن تخبر أحدا وخاصة أمها.
ابنيهما “مصطفى” و«إشراق” أيضا لا يعلمان، إلا أنهما لاحظا أن هنالك أمر غير عادي..”مصطفى” الابن البكر في نهاية الطور الثانوي سيجتاز امتحان شهادة البكالوريا بعد أشهر، أما “إشراق” البنت المدللة في السنة الخامسة ابتدائي..
انقضت الأيام الثلاثة..والنتيجة خيّبت التفاؤل والأمل الكبيرين وأكّدت أن الورم خلايا سرطانية..الخبر أربك ثلاثتهم وبخاصة شقيقتها التي لم تتمالك نفسها وانخرطت في البكاء على مصير شقيقتها الكبرى..”حسين” لم يترك له الموقف خيارا غير التماسك، أما “صفية” فبدت مصدومة أكثر من أي شيء، دمعت عينيها وانصرف تفكيرها إلى ما ستعانيه في الأيام المقبلة، وإلى العلاج وصعوبته وعن فرصها في النجاة، وهل يستأصل ثديها؟ كيف ستعيش بقية حياتها إن تقرر ذلك؟ وبالذات هي التي كانت تتباهى بقوامها وأنوثتها.

جـرعــة المــوت

 كانت تسمي “صفية” جرعات العلاج الكيميائي بجرعة الموت الأخيرة، بعد نتيجة فحوصات بالأشعة والموجات الصوتية، فقد توصل الأطباء إلى أن الورم تجاوز حجمه 2سم، وأن الداء بلغ المرحلة الثالثة، “صفية” تأخرت عاما كاملا منذ أن لاحظت الورم أول مرة، سؤالها الأول والذي ظل لا يفارقها طوال فترة العلاج “هل يجب أن تستأصلوا الثدي يا دكتور؟” ، كان رد الطبيب “احتمال لا، ولكن الأمر يعتمد على تجاوب المرض مع العلاج”.
تقرر لها ست جرعات بين كل جرعة وجرعة كانت تختبر الموت وأكثر، وعانت ما لا يمكن وصفه، قالت: “بعد كل جرعة أدخل في حالة سيئة، أكره كل ما حولي، لا أشتهي الطعام أبدا وأتقيء أي شيء يدخل معدتي، حتى الماء لم تعد لدي فيه رغبة، كأني مصابة بداء السعر..لا أحتمل الضوضاء والأصوات، وأحس طنينا متواصلا في دماغي..كرهت الناس من حولي..لا أطيق الكلام، أما صوت ابنتي إشراق التي أحبها - آه من صوت إشراق - وهي تتباكى يصيبني بالجنون..زيارة الضيوف ومجاملتهم أصعب اللحظات، وأدعو الله في سري أن أصبر على وجودهم، وأن يغادروا أسرع ما يمكن، زوجي احتمل القدر الأكبر، كل ما دار بيننا حديث أصرخ في وجهه حتى وإن كان يمزح ليخفف عني...
بين كل جرعة وجرعة كنت أخشى أمرين الموت أو الجنون..أطبق شفتاي طوال اليوم حتى لا تخرج روحي من بين أسناني، وأغمض عينيَ خشية الجنون، وأستعين بالذكريات الجميلة في علاقتي بزوجي حسين، معاناتي مع العلاج لم تنته عند هذا الحد، بل تبدّل شكلي تماما، تساقط شعري، ولم تسلم حتى حواجبي ورموش عيني..لون بشرتي تحول للسواد وتغيرت ملامحي…”.

رغم الاستـئصـال انـفتحت على الحــياة

 أجريت العملية كما أجريت عملية تجميل لمنطقة الثديين، على رأي الطبيب “صفية” كانت محظوظة لكون أنها ستعيش، فالمرض رغم تأخرها في العلاج لم ينتشر في مكان آخر من جسمها.
أيام بعد العملية، وقفت “صفية” أمام المرآة ونظرت إلى صدرها الذي بات خاليا من ثدييها، بعد أن تمّ استئصالهما بسبب السرطان اللعين، أربع سنوات مضت و«صفية” لا تفوت فرصة تبديل ملابسها أمام المرآة المعلقة في غرفة نومها لتتأمل الجزء المفقودة من أنوثتها، لم يكن تأقلمها مع شكلها الجديد أمرا سهلا، إلا أن لا خيار آخر سوى أن تتأقلم، حتى أنها اليوم لم تعد ترى في استئصال ثدييها مشكلة وتمارس حياتها بصورة طبيعية، علاقتها مع زوجها “حسين” لم تتأثر بما حدث.
قناعتها أن السرطان نهش أنوثتها واقتطع جزءاً مهم منها تبدلت إلى شيء إيجابي في حياتها، وانفتحت على حياة جديدة وباتت تقول: “لم اكن أدري أن هناك نساء يعانين كل هذه المعاناة بسبب سرطان الثدي، الذي يتحول من مشكلة بسيطة إلى مرض قاتل إن استهترن في علاجه”.
«صفية” تأخرت كثيرا، عام كامل منذ أن لاحظت الإحمرار والحبة على ثديها الأيسر، هي الآن تحث النساء على أن يكشفن دوريا قبل ظهور أعراض حتى، ولها عبارات مشهورة “للحفاظ على نفسك سليمة افحصي نفسك باكرا ودوريا، وللحفاظ على بيتك وحياتك وتخفيف معاناتك حال رأيتي أي تغير في صدرك، اتصلي في نفس اللحظة بالليل أو النهار بالطبيب، وافحصي فورا ولا تؤجلي الفحص ساعة واحدة”.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024