”نقرين” من أقدم أسماء المدن في العالم

شاهدة على عمارة متميزة ضاربة في عمق التاريخ

«قصور نقرين” التاريخية والأثرية في بوابة الصحراء على بعد 150 كلم جنوب عاصمة الولاية تبسة، فن البناء التقليدي الصحراوي والمهارة المحلية في مجال الهندسة المعمارية، إذ تعتبر هذه البنايات شاهدة على تعاقب عديد الحضارات من فترة ما قبل التاريخ مرورا بالحضارة الرومانية إلى غاية الفتح الإسلامي.
تعرف الصحراء بقساوة طبيعتها، إلا أن الإنسان القديم تمكّن من استيطانها بتشييده لإحدى عجائب المعمارية في العالم القديم، فقد استطاع بناء بيوتًا تقليدية بتقنيات بسيطة تضمن له مستوى عاليا من الرفاهية رغم كل الظروف المناخية الصعبة بتشييد مستوطنة بشرية متكاملة أين تتوزّع الواحات وقصور الصحراء الكبرى عبر مخطط كبير يتوافق مع طرق التجارة العابرة للصحراء ومن ثم تنتشر الشبكات الفرعية لها شرقا وغربا.
 ولكل منها خصوصياته المتعلقة بالإقليم، بالمجتمع، بالعادات وأحد أشهر الأمثلة الرائعة في أقصى الشرق الجزائري هو قصر نقرين جنوب تبسة، الذي يعتبر همزة وصل بين الجنوب والشمال الشرقي وبين الجزائر وتونس أيضا. قصر نقرين الذي يصنف ضمن الأمثلة الرائعة عن العمارة.

تشابك في البناء يعكس التلاحم بين العائلات

يعكس بناء المنازل في هذه المنطقة، على شكل قصور صغيرة صفراء اللون، تحيط بها أشجار النخيل والأشجار المثمرة، تصميم الإنسان على بناء مساكن في بيئة صحراوية جافة، دافئة شتاء وباردة صيفا، باستعمال مواد بسيطة منها الطين والحجارة وجذوع الأشجار والنخيل.
ويتوسّط هذه البنايات مسجد قديم، معروف ويشتهر بديكوره المتميز وطرازه المعماري الإسلامي العربي الأصيل، يرمز إلى العلاقة الوثيقة بين سكان هذه المنطقة والدين الإسلامي، إلى جانب مجموعة من المحلات التي لا زالت تشهد على الماضي القديم لمنطقة نقرين.
كما يعكس تلاحم العائلات فيما بينها وتقاربهم والمحافظة على مبدأ حسن الجوار، أحصت القصور القديمة بمنطقة نقرين، عددا من المساكن اعتمد فيها القدامى على المواد الطبيعية المتوفرة بالقرب منهم في بنائهم، وهي التربة الطينية وتستعمل في صناعة الطوب والبناء، والحجارة وجذوع وسعف النخيل التي تستعمل للأسقف والأبواب، والجص (الجبس) ويستعمل في التلبيس، وتستعمل الأقواس عند مداخل البيوت.
وتوجد بالمدينة القديمة، بساتين النخيل، وبعض الأشجار المثمرة وصوت خرير المياه، الذي يسمعه الزائر من بعيد، فالمتمعن في عمران المدينة، يقف على حسن استعمال المواد الأولية المتاحة، فالتربة والحجارة للبناء وجذوع النخل، والأشجار في نصب الأعمدة، وتثبيت الأسقف، بينما تتكاثر المحلات التجارية والدكاكين هنا وهناك، أما مسجدها فيتوسط المدينة بزخارف مميزة، وأنماط عمرانية عربية إسلامية.
وبمدينة نقرين العتيقة تتوارد الأفكار وتطرح التساؤلات حول من مروا من هنا، بداية بحقب ما قبل التاريخ، ومرورا بالحضارة الرومانية، البيزنطية الوندالية إلى غاية الفتوحات الاسلامية، وصولا إلى هذا العصر، وتؤكد المراجع التاريخية، أن بعض الصحابة الفاتحين، مروا من هنا، نحو الصحراء وبسكرة، وتكبد المستعمر الفرنسي بالمنطقة خسائر جسيمة، ولا تزال مقبرة جنوده، شاهدة على ذلك.

”التويزة” لترميم القصور حفاظا عليها من الاندثار

ما زالت بنايات قصور نقرين رغم العوامل الطبيعية القاسية ومرور مئات السنين على بنائها شامخة وضاربة في عمق الصحراء رغم تعرضها للإهمال مؤخرا، ولبعض العوامل التي تسببت في تخريب بعض الأجزاء منها، ولأنها جزء من شخصية كل فرد نقريني ويحن كبار السن ممن عاشوا بهذه السكنات إليها، فتوجب عليهم إيجاد الآليات والسبل الكفيلة بحماية هذا العنصر المهم المكون للهوية الوطنية من التدهور والاندثار.
دأب الكثير من شباب وسكان المنطقة منذ سنوات وبإشراف جمعية إحياء السياحة والتراث على الانطلاق في مبادرة تعتبر تحديا لإعادة تأهيل هذه المواقع لاستعادة جزء من تاريخ مدينتهم بالتنسيق مع مصالح البلدية على أمل جعلها وجهة سياحية صحراوية بامتياز، حيث انطلقت عملية ترميم واسعة شملت الواجهة والطرق والمسالك المؤدية إلى جميع أطراف المنطقة، وهذا باستخدام نفس المواد الأولية التي بنيت منها.
وحسب تصريح “لخضر حامي” رئيس جمعية السياحة والتراث، فقد تمّ ترميم الكثير منها من أجل وضع البصمة الخاصة بهم مع الحفاظ على المميزات القديمة لإعادة تأهيلها واستقبال عدد أكبر من السياح، فقد عملت على تنظيم “التويزة” والتي هي عبارة عن حملات تطوعية يقومون بها كل يوم السبت لترميم القصور، التي اعتبرها هذا الأخير متحفا في الهواء الطلق وأن ترميمها لإعادتها إلى شكلها الأصلي وبنفس مواد البناء يمكن من بعث ديناميكية بهذه المنطقة وجعلها من بين المناطق الأكثر استقطابا للسياح سواء من داخل الوطن أو من الخارج.

المنطقة شاهدة على مقاومة الاستعمار

وتقول الروايات أن هذه القصور المبنية من التراب والحجارة، قد شيدت منذ مئات السنين، حيث استوطنها الإنسان النقريني وحاول تطويع ما هو بمحيطه وتسخيره لصالحه، كما لجأ إليها ابن الأمير عبد القادر الجزائري بجيوشه في مرحلة النفير ومحاولة مقاومة الاستعمار الفرنسي، مثلما تذكره الروايات المحلية، وقد شيدت بها ثاني أقدم مدرسة بالشرق الجزائري في أواخر القرن الثامن عشر ولا تزال بعض أساساتها بارزة لحدّ الآن.
شهدت منطقة قصور نقرين على المقاومة ضد الاستعمار حيث تمّ استقبال الامير محي الدين ابن الأمير عبد القادر سنة 1871، لما عاد من تونس وجمع جيش من أهل تبسة وحاربوا ضد الاستعمار، فقام المستعمر بعد هذه المعركة بقطع عدد كبير من النخيل في المنطقة وهدم عدد من المنازل وفرضت على أهل نقرين 1900 فرنك فرنسي ضريبة.
وخلال الثورة فرض على ساكنيها أوقاتا للدخول والخروج إلا أن ذلك لم يمنعهم من الانضمام للثورة.

ديكور طبيعي يلهم الفنانين والمخرجين السينمائيين

يسحر ديكورها الطبيعي المتميز ومنازلها المتلاحمة كل زائر لها، فألهمت الفنانين من الشعراء والأدباء والرسامين، وأصبحت استديو مفتوح على الهواء مناسب لتصوير المسلسلات والافلام التاريخية فجمال وهيبة القصور العتيقة يوحي للزائر أنها قطعة من التاريخ مازالت عالقة بين حلقات الزمن.
وهو ما يعمل عليه الشاب الفنان الطموح عمر عزوزة بتصوير الافلام القصيرة عن الثورة في منطقة نقرين انطلق بالجزء الاول الذي لقي نجاحا على المستوى المحلي، وانطلق في تصوير الجزء الثاني مؤخرا متحدثا عن مراحل انطلاق الثورة بمنطقة قصور نقرين وعن عادات السكان الطيبين الذين عاشوا بتلك الفترة.
يطلق عليها المدينة المتاهة أو صاحبة السبع أبواب وسبع أسوار نظرا لتشابه أزقتها ومبانيها فلا يكاد الزائر يفرق بينها لأول وهلة، إلا انه ينحني إجلالا وتقديرا لصلابة وقوة من مروا من هنا وعمروا هذه القصور ولم يعيشوا حياة الترحال والخيم كمن عاصروهم بل استقروا وبنو عالمهم الخاص بهم في إصرار على مواجهة الطبيعة القاسية والتغلّب عليها والوقوف في وجه زحف الرمال والصحراء الصعبة.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024