الاحتفالية فرصة لاستحضار عادات وتقاليد المنطقة

”ينّـار” بالأوراس... خُصوصيـة حضـاريـة تتحــدّى النسيـان

لموشي حمزة

تحرص العائلات الأوراسية بولايات باتنة، خنشلة، أم البواقي وغيرها على جعل الاحتفال بـ “ينّار” حدثًا سنويًا مُهمًا ضمن أجندتها الخاصة بإحياء المُناسبات الوطنية والتاريخية ذات البُعد الحضاري، حيث ترسّخ رأس السنة الأمازيغية، أو “ينّار” كما يحلُو لسُكان الأوراس تسميتهُ في قُلوب وعُقُول وتصرفات سُكان ولاية باتنة، يحظى برمزية تحرص العائلات على الحفاظ عليه ونقله للأجيال بكثير من الشوق والحنين.

يتميّز الاحتفال بـ “ينّار” بالكثير من المراسم المحلية انطلقت منذ أسبوع، يبقى من بين أهم الأطباق حسب الحاجة صليحة إعداد طبق يُسمى بالشاوية “ثاروايث” وتسند مُهمة إعداده للجدّة على اعتبار أنّها الأكبر سنّا والأقدر على إعداده بالطريقة التقليدية الأولى، يتكوّن من طماطم وبصل وغيرها من مُستلزمات تحضير مرقه، تضاف إليه لاحقا –حسب الحاجة صليحة- كمية من مادة الدقيق ويتحوّل إلى شكل “عصيدة”، وعند تقديمه تُضاف إليه كمية من الدهان الطبيعي المنتج من حليب الماعز أو البقر أو الزبدة المصنوعة من مشتقات الحليب في حال تعذّر الحصول عل الدهان.

ارتبــاط وثيــق بين السكــان والأرض

ليحضّر بعدها في اللّيل طبق الكسكسي، بينما تحبّذ بعض الأسر تحضير “الشخشوخة”، لتكون أغلب النساء في ذلك اليوم، وهو أول أيام “ينّار” المُصادف هذه السنة ليوم الجمعة 12 جانفي، منشغلات بتنظيف المنازل، وعند الظهيرة يخرجن في شكل مجموعات كبيرة رفقة الأبناء من مُختلف الأعمار باتجاه البساتين والغابات والمناطق الجبلية المجاورة، وهذه العادة تراجعت في المُدن وأصبحت مُقتصرة على العائلات التي تقطن في الأرياف والمناطق الجبلية والقرى والمشاتي، لإحضار مُختلف الحشائش والأعشاب الخضراء، تيمُّنًا بعام فلاحي جديد وناجح  تأكيدا للارتباط الوثيق بين السكان والأرض.
وتحتفل العائلات الأوراسية بميلاد السنة الفلاحية الجديدة على طريقتها الخاصة، مع الأبناء والأقارب والجيران في أجواء تُكرّس قيم التكافل والتراحم بين الجزائريين إلا أنّ القاسم المُشترك بين كلّ ولايات الوطن في هذا الاحتفال هو ضرورة وأهمية بداية الاحتفال بالنحر، حيث تُؤكّد إحدى السيّدات أنّه حسبما جرت العادة في قرية الشمرة، يقوم ربّ العائلة بذبح أضحية تتمثل غالبا في ديك أو دجاجة من تلك التي تم الاعتناء بها في حديقة المنزل بالريف، حيث يتم في الماضي نحر ديك عن كلّ رجل ودجاجة عن كلّ امرأة، كما تذبح دجاجة وديكا عن كل امرأة حامل، لكنّ بعض العائلات لا تلتزم بهذا الشرط، فالمُهم هو أن تسيل دماء حيوان أليف باعتبار أنّ الأضحية تقي النّاس من الأمراض، وتحصّنهم من أذى العين وتبعد المخاطر عنهم طيلة أيّام السنة وهي أفكار راسخة في أذهان وعقول سُكان الأوراس لا يُمكن إطلاقا فتح باب النقاش بشأنها بقدر ما يتوجّب تصديقها والالتزام بها.
والثابت أيضا في احتفالات سكّان الأوراس بـ “يناير” قديما قيام النساء بتغيير أثاث المنزل ورمي رماد الموقد واثنين من أحجاره المعروفة شعبيا وباللّهجة الشاوية المحلية محليا “أينين” ومعناه حجارتين اثنتين واستبدالها بأخرى جديدة وصغيرة بعدد أبناء العائلة لتقوم ربّة المنزل بطلائها بالسمن لتوضع بعدها على النار لتسود، وهي إشارة حسب درجة اسوداد الحجر على قرب دخول الأفراح لذلك المنزل بزواج أحد أفراد العائلة عاجلا.
كما يقوم كُلّ فرد من العائلة بتقليب سبعة أحجار، ينظر أسفلها، فإن وجد نملاً فهذا يدلّ على تكاثر عدد الماشية من ماعز وغنم، أمّا تواجد الحشرات فيعني الأحفاد، والديدان تعني العرائس، تقول الحاجة صليحة أما إذا وجدت حُفر صغيرة، فهذا دليل على مخازن المؤُونة والمال، وتظهر قيم التعاون بين العائلات من خلال وُجوب إتمام بعض الأعمال قبل حلول “ينّار” عل غرار إنهاء النسيج القائم المعروف بالشاوية “أزطا”، لطرد الشؤم والنحس بعد تزين  النساء بالسواك والكحل ويلبسن أجمل ما لديهنّ من لباس وحُلي تعبيرًا عن الفرح والاستعداد لاستقبال “ينّار”.

”أتـــش شرشـــم نفرعــــون”

كما يتم بالمناسبة دائما تحضير طبق “الشرشم” باستخدام أجود أنواع القمح المُدّّخر لهذا السبب حيث يُغلى في الماء الساخن، وتُضاف إليه حبات الحمص “اطنينت” والخليع، وهُناك من يُضيف إليها الذرة المُجفّفة، فيُوزّع على الجيران ويقال “أتش شرشم نفرعون” أيّ كُول شرشم فرعون لتذكيرهم بانتصارات الأجداد الأمازيع الأحرار.
كما يتواصل الاحتفال بـ “ينّار” من خلال عادات أخرى سائدة في الأوراس، أبرزها حلق شعر المولود الذي يبلغ سنة من العمر عند حُلول هذه المناسبة، يوضع داخل قصعة كبيرة تدور حوله النساء من أقاربه لترمى فوقه امرأة مُتقدّمة في السنّ مزيجًا من الحلويات والمًكسرات والسًكر والبيض ليكون مًستقبله زاهرًا ويُزق بالذرية الكثيرة التي تحمل اسمه وتخلّّدهُ.
وتُخصّص أيضًا الفترة المسائية للتسلية حيث تتربّع لعبة “ثي عشان” أو “ثاعشونت” أو لعبة التمرّن على الأسرة من طرف الأطفال الصغار ألعاب هذه المناسبة أولويات وتلقى إقبالا منقطع النظير خاصة في القرى والأرياف لغاية وقتنا هذا تهدف إلى تلقين رُوح المسؤولية للطفل الصغير وتعويده تحمل المسؤولية فتكلّف الأم ابنتها الصغيرة بتنظيف المنزل مثلا وطبخ طبق صغير أيّا كان مع القيام ببعض الأعمال المنزلية الأخرى الخفيفة في الوقت الذي يحرص الأب على جعل ابنه يقوم ببعض الأعمال سيّما الفلاحية منها والسقي والرعي وغيرها.
تبقى مُناسبة “ينّار”، فُرصة للعائلات الأوراسية تلقين الأجيال الحالية عبق وسحر الماضي وكذا ربطها بماضيها الضارب في أعماق التاريخ، من خلال استذكار عادات وتقاليد راسخة في الأذهان يتم إحياؤُها واستحضارُها والاحتفال بها رغم موجة التكنولوجيا التي عصفت بكلّ شيء.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19463

العدد 19463

الإثنين 06 ماي 2024
العدد 19462

العدد 19462

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19461

العدد 19461

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19460

العدد 19460

السبت 04 ماي 2024