استبشار بعام جديد مليئ بالخير والبركات

”ينّايــر”.. احتفالية حياة ووفـاء لأرض الأجـداد

نيليا.م

 اكتسب الاحتفال برأس السنة الأمازيغية الجديدة في السنوات الأخيرة أهمية كبيرة باعتباره أحد مقوّمات الهوية والثقافة الوطنية، والذي تحوّل مع مرور السنين إلى تقليد يحتفى به سكان منطقة جرجرة لما له من اعتبارات تاريخية وثقافية تحاكي تاريخ الأجداد الذي تناقلته الأجيال عبر هذه الاحتفاليات التي تتجسّد فيها العادات والتقاليد، معلنة عن بداية العام الجديد أو “ايخف اوسقاس” الذي يستبشر به سكان المنطقة خيرا لارتباطه الوثيق بالأرض والعام الزراعي.

ارتباط سكان منطقة جرجرة بالأرض والزراعة، جعل منها المصدر الرئيسي للعيش والتعايش مع الطبيعة رغم كلّ الظروف الصعبة خاصة في فصل الشتاء، الأمر الذي دفع بسكان منطقة إلى اتخاذ نمط حياة تصالحوا فيها مع الطبيعة، وهي منطلق حكاية يناير التي ربطها السكان بأسطورة ما تزال تحتفظ بها الذاكرة الشعبية لهذه المنطقة وتناقلتها الألسن عبر قرون لتكون من أجمل الأساطير المليئة بالعبر والحكم، والتي يرفع عنها الستار كلّما عادت الاحتفاليات بيناير، حيث تقوم الجدات بروايتها للأحفاد والحفيدات من أجل ضمان استمرارية هذا الموروث الثقافي وتداوله بين الأجيال حفاظا عليه من الاندثار.

الأرض والزراعة وأسطورة العجوزة

الحديث عن يناير في منطقة جرجرة يرتبط ارتباطا وثيقا بعدّة جوانب “الأرض، الزراعة، التقويم الأمازيغي”، إلاّ أنّ أسطورة العجوزة التي تحدت شهر “يناير” تربّعت على عرش الذاكرة الشعبية ودخلت في ثقافة سكان منطقة القبائل، فمن يقول يناير يقول “العجوزة” أو “ثامغارث”، أو كما يقول المثل “ لوكان ماشي ذيناير اسكسب ثجالت لمال” أيّ بمعنى “لو لا يناير ستكسب الأرملة الأغنام والماشية”.
 وهذا دلالة على قساوة الطقس في هذه الفترة من السنة، حيث يسدل شهر يناير ستاره على الجوّ معلنا قدوم الأجواء الشتوية والباردة، وتساقط الثلوج الكثيفة التي تحرم السكان الخروج من منازلهم طيلة تلك الفترة، حيث يعم السلام والتصالح مع الطبيعة، فلا يمكن لأحد أن يتحدى الطبيعة في هذا الموسم.
ولكنّ الأسطورة التي تعود إلى قرون والتي سمعناها على ألسن الجدّات في أيام الشتاء ونحن جالسين أمام الموقد “الكانون” يجعلنا نعيش تلك الأحاسيس والمشاعر من خلال تحدي “العجوز” لشهر يناير مخاطبة إياه أنّها ستخرج رفقة غنمها من أجل الرعي في الجبال، حيث قالت له “ لقد خرج شهرك وسأخرج مع غنمي للرعي” الأمر الذي أثار غضب “يناير” الذي طلب من شهر فيفري” فورار” أن يمنحه يوما للانتقام من تلك العجوز وهو ما حدث فعلا حيث تغير الطقس فجأة والعجوز متواجدة في الجبل رفقة غنمها لتشتدّ الأمطار والثلوج ليكون مصير العجوز الموت بعد أن تجمّدت من البرد، لتبقى هذه الأسطورة الجميلة مرسّخة في الأذهان واصطبغت بها الثقافة الأمازيغية التي لم تنسى تلك الحكاية، التي تعود بحلول يناير من كلّ عام.
تعتبر الاحتفاليات بـ “ينّاير” في المنطقة احتفالية حياة، تجسّد من خلالها عادات وتقاليد تختص بها مناطق وقرى ولاية تيزي وزو التي ما يزال سكانها متشبّعون بثقافتهم التي يقومون بإحياء مناسباتها كلّ عام، ومن بينها يناير الذي تبدأ التحضيرات لإحيائه بمجرد دخول شهر يناير من كلّ سنة، ولو اختلفت البعض من مظاهر الاحتفاليات عما كانت في السنوات الماضية أو عهد الجدّات، إلا أنّها ماتزال تحمل من رونقها وروعتها الكثير، وهذا من خلال الاحتفاظ ببعضها وإحياء البعض الآخر مع ما تأخذه الاحتفالية من أبعاد وطنية يتشارك فيها كلّ الجزائريين من مختلف ربوع الوطن.

فأل خير لدخول الأيام البيضاء والأمل

تبدأ النسوة في منطقة جرجرة بالتحضير للاحتفال بيناير من خلال تنظيف المنازل وتغيير الأواني وحتى الموقد الذي يطهون عليه الطعام، وهذا من أجل إخراج السواد وإدخال كلّ شيء أبيض إلى المنزل على حدّ تعبيرهنّ “إخراج السوداء وإدخال البيضاء” وهذا كفأل خير بحلول أيام جميلة ومشرقة مليئة بالخير.
 وبعد الانتهاء من هذه المرحلة، يبدأن في تفقّد الطعام المتواجد داخل المنازل والمخبأ داخل أواني فخارية مصنوعة من الطين والمسماة “ايكوفان” هذه الأواني المستعملة خصيصا للاحتفاظ بالحبوب الجافة وكلّ ما تجود به الأرض أيام الزراعة، حيث توفّر المرأة هذه الحبوب وتأخذ كمية لاستعمالها في تحضير طبق ليلة يناير.

طبق الكسكس نسبعا “يسوفار” والدّجاج سيد مائدة العشاء

تتفق العائلات في منطقة جرجرة على تحضير طبق واحد ليلة يناير والمتمثل في طبق الكسكس بسبعة مقادير، ولا تختلف النسوة في طريقة تحضيره، أين كانت في الماضي تحتفظ النسوة بهذه المكوّنات السبعة أيّ المقادير “الحمص، الفاصولياء، القمح والشعير، الفول...” منذ عمليات الحصاد وجمع الغلّة من الحقول، ولكن حاليا يتّجهن إلى السوق من أجل اقتناء هذه الحبوب والخضروات أيام قليلة قبل الاحتفال برأس السنة الأمازيغية يناير، ناهيك عن اقتناء اللّحوم البيضاء والمتمثل في الدجاج حيث لا يخلو طبق الكسكس من الدجاج الذي كان في الماضي يربى في المنزل من طرف الجدّة على أن تسميه دجاج يناير ويكون لونه أبيض من أجل أن يكون العام وفيرا بالخيرات، وعند حلول يناير يقوم كبير العائلة بذبحه وتقديمه للنسوة من أجل طبخه للعشاء.
في يوم يناير وقبل حلول الليل تشرع النسوة في تحضير العشاء في الوقت الذي تتكفل فيه الجدّة برعاية الأولاد الذين يجتمعون حولها وهي تحكي لهم بعض القصص وتلاعبهم حتى حلول العشاء، أين تكون التحضيرات قد انتهت والطاولة أعدّت بأشهى المأكولات التي تتخلّلها أطباق حلوة وكلّ أنواع الفواكه، على أن تقوم الجدّة بتوزيع الطعام على الجميع بعد التفافهم على طاولة واحدة تطغى عليها مظاهر الفرح والضحكات، خاصة وأنّ المناسبة تجتمع فيها العائلات الصغيرة داخل العائلة الكبيرة ليتشاركوا هذه الأجواء.
 كما تدعى البنات المتزوّجات وحتى الأبناء المهاجرين والمغتربون تكون لهم حصتهم من الطعام المحضر، حيث توضع ملاعقهم على الطاولة مع أطباقهم ونصيبهم من كلّ ما هو معدّ ومحضر، في رسالة أنّهم متواجدون وسط العائلة رغم بُعد المسافات وهذا ما يزيد من تلك الأجواء دفئا وفرحا، هذه الوجبة التي يلتقي من خلالها أفراد العائلة وحتى الحيوانات والمواشي تشاركهم هذه الاحتفاليات بعد تنظيف الاسطبلات وأماكن تواجدها، كما يقدّم لهم نصيب من الطعام.
بعد الانتهاء من العشاء تحضّر النسوة لمراسيم احتفالية الحنة وتزيين البنات، كما يكون للصبي الصغير حصة الأسد من هذه الاحتفاليات حيث تعدّ له احتفالية خاصة تتمثل في وضعه داخل قصعة من أجل قصّ جزء من شعره من طرف الجدّ ويقومون بعدها برمي مختلف الحلويات والزهور عليه، في أجواء من الفرح والمتعة والضحكات التي تتنافس خلالها النسوة بالغناء وإطلاق العنان لحناجرهنّ التي تجود بأجمل الوصلات الغنائية، لتنتهي الليلة المبهجة تاركات أواني الطعام على حالها ودون غسلها من أجل ضمان البركة والوفرة في منازلهنّ.
في صبيحة اليوم الموالي تستيقظ النساء والرجال مبكّرا وبعد التحضير لفطور الصباح، ينتقل الرجال إلى الأسواق بعد اجتماعه داخل المسجد رفقة الأولاد الصغار الذين تتراوح أعمارهم ما بين العامين والثلاث سنوات من أجل التسوّق لأول مرة في حياتهم، لإعدادهم لمسؤوليات العائلة، حيث يقومون باقتناء رؤوس العجول والعودة بها إلى المنازل من أجل التحضير لوليمة يدعون إليها الأقارب على أن تتكفل النسوة بتحضيرها بعده عودتهنّ من الحقول وإحضار أغصان أشجار الدفلة من أجل تمريرها على كلّ المنازل والحقول لإبعاد الأمراض وبعدها يقمن بتعليقها على عتبات المنازل دفعا للمخاطر.
مظاهر الاحتفال بـ “يناير” تستمر ما بين ثلاثة أو سبعة أيام في مختلف المناطق، هذه العادة التي اختفت فيها الاحتفاليات لسنوات ولكنّها عادت مجدّدا إلى الواجهة، حيث تتركّز على التجمّعات العائلية وتنظيم جلسات نسائية غنائية، ترتدي فيها النسوة أجمل الحليّ والملابس التقليدية، كما أصبحت هذه الاحتفاليات جماعية تمتدّ إلى كامل القرية وذلك من خلال تنظيم احتفاليات تجتمع فيها كلّ العائلات وسط أجواء من المرح والفرح، والبهجة التي تطغى على الأماكن متفائلين بعام جديد ووفير ومزدهر تكون فيه للطبيعة كلمتها.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19463

العدد 19463

الإثنين 06 ماي 2024
العدد 19462

العدد 19462

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19461

العدد 19461

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19460

العدد 19460

السبت 04 ماي 2024