مظاهـر احتفالية تجسـّد عادات وتقاليـد منطقة جرجـرة

تيزي وزو.. أجــواء روحانيــة احتفـالا بليلـة القدر

نيليا م.

تستعد العائلات في منطقة جرجرة لإحياء ليلة القدر المباركة في أجواء تغمرها مظاهر التحضيرات التي تشهدها مختلف القرى، حيث يتسابق فيها الجميع من أجل احيائها في أجواء أقل ما يقال عنها أنها تشبه تحضيرات الأعراس المزينة بالفرح والبهجة.

تعرف قرى منطقة جرجرة بعادات وتقاليد تختلف عن عادات وتقاليد باقي ولايات الوطن، رغم توحدها بشعائر الاسلام التي تطغى على الليالي الرمضانية والتي يتسابق فيها الجميع للاجتهاد في العبادات والاعمال الصالحة، والتسابق الى المساجد من أجل أداء صلاة التراويح وتلاوة القرآن، وختم كتاب الله عزّ وجلّ في أجواء روحانية متشبعة بالسكينة والطمأنينة، وهي المظاهر التي تتكرر يوميا طيلة شهر رمضان، إلا ان الله اختصه بليلة مباركة لا تشبه باقي الليالي الأمر الذي دفع بسكان القرى الى إحياءها واضفاء أجواء احتفالية عليها وذلك بإحياء عادات وتقاليد ورثوها عبر القرون من الاسلاف وماتزال راسخة الى يومنا هذا وتعود الى الواجهة كلما حلّت ليلة القدر المباركة.
«النا تسعديت” امرأة في العقد السابع من عمرها تنحدر من قرية ايت زعيم بمعاتقة والتي تعتبر من بين النساء المتمسكات بعادات وتقاليد ليلة القدر، حيث تسعى دائما الى الاحتفال بها وسط عائلتها وأحفادها الذين يلتفون حولها في كل مناسبة، من أجل الاحتفال رفقتها والاستمتاع بتلك الفرحة والبهجة التي تخلقها في المنزل، حيث ترفض التخلي عن عادات أجدادها وتسعى دائما لتوريثها لبناتها وحتى نساء القرية وهذا حفاظا عليها من الاندثار.
«النا تسعديت” التي جمعنا معها حديث شيّق حول عادات المنطقة في ليلة القدر أكدت لنا ان الزمن تغير وتغيرت معه الكثير من الاشياء إلا أنها لا تتوانى للحظة في احياء ليلة القدر وفق العادات والتقاليد التي ورثتها عن جدتها ووالدتها، خاصة وان هذه المناسبة تجتمع فيها العائلة على طاولة واحدة تزيد من تماسكهم وتكافلهم، هذه الصورة الجمالية التي تعود مع حلول شهر رمضان وبالأخص ليلة القدر، وتسعى دائما للحفاظ عليها والعيش بسعادة وسط ابنائها واحفادها الذين يعتبرونها قدوة لهم.

طبـق الكسكس باللحم أو الدجـاج سيـد الاطبــاق

لا تخلو طاولة “النا تسعديت” في ليلة القدر من طبق الكسكس باللحم أو الدجاج، لتختلف عن باقي ايام شهر رمضان أين تكون الشربة سيدة الموائد في مختلف العائلات، إلا ان ليلة القدر تختص بطبق الكسكس الذي يعود مجددا الى الطاولة في شهر رمضان، حيث تقوم “النا تسعديت” بتحضيره في الساعات الأولى من نهار ليلة القدر المباركة، ما يضفي على المطبخ حركية وأجواء من الفرح وتعطي صورة جميلة للاستعداد لإحياء هذه الليلة التي تحمل معاني روحانية مزينة بعادات وتقاليد منطقة جرجرة، على ان يكون تقديم الكسكس في قصعة من الفخار والتي تجيد هذه الاخيرة صناعتها كونها من رائدات هذه الحرفة في القرية والمنطقة بأسرها.
متحدثنا، صرحت ان طبق الكسكس الذي يحضر خصيصا في ليلة القدر يتشارك فيه كل أفراد العائلة وحتى المغتربين، أين توضع ملاعقهم في القصعة مع نصيبهم من اللحم أو الدجاج والبيض المسلوق، وبعدها يتناولون العشاء وسط الدعوات باللّمة الدائمة وسط العائلة مستبشرين بالتآخي والتكافل والتعاون فيما بينهم، وهو الهدف من هذه القعدة الرمضانية التي ترجو من خلالها “النا تسعديت” جمع أحفادها وابنائها على طاولة واحدة وان يتحدّوا فيما بينهم دائما ولا يفرقهم الزمن، فهذه الوجبة أكثر من ان تكون مجرد وجبة افطار وإنما هي “جمع شمل العائلة”، وبعد الانتهاء وتنظيف الطاولة والاواني، وعودة الرجال من المساجد بعد ادائهم صلاة التراويح تواصل العائلة سهرتها بالشاي والحلويات مرفوقة بحكايات، أشعار وأغاني شعبية تزيد من جمال تلك اللمة التي تزيد من تلاحم العائلات.

تصويــم الصغار ..عـادة راسخة وسـط العائــلات القبائليــة

تسعى العائلات القبائلية الى تصويم الفتيات والفتيان الصغار لأول مرة في حياتهم في يوم السابع والعشرين من شهر رمضان المصادف لليلة القدر المباركة، وهذا لما لها من أهمية ومعاني خصّها الله عز وجل بها، لهذا تتفاءل بها الامهات والجدات وتعتبرها فرصة لا تعوض لتعويد الاطفال على الصيام لأوّل مرة، وتشجيعهم على اداء شعائر الصيام وتحبيبهم في شهر رمضان من اجل المواظبة على صيامه كل عام.
عادة تصويم الاطفال الصغار يعتبر رهان احتفالية كبيرة بالنسبة للعائلة، حيث يسعى الجميع للمشاركة فيها أين يختص الطفل بطقوس جميلة تجعل منه محط الانظار طيلة اليوم والى غاية آذان المغرب، حيث تقوم النسوة بإعداد اطباق خاصة بالطفل، وهو ما اكدته لنا “النا تسعديت” التي صرحت ان في هذا اليوم نقوم بمراقبة الطفل طيلة النهار، من أجل مساعدته على الصيام وقضاء يومه دون تعب أو الاحساس بالجوع، على ان تقوم الجدة أو الام بتحضير الطعام الخاص به والمتمثل أساسا في البيض المسلوق، دجاج ورغيف من الخبز التقليدي.
 ليصعد الصائم الصغير فوق سقف القرميد أو مكان عالي ليعلو شأنه بعد إلباسه أجمل الملابس التقليدية “البرنوس” بالنسبة للفتى والجبة القبائلية والمجوهرات الفضية للفتاة، حيث يقومون بمنحه سبعة شربات من الماء من كأس به جوهرة فضة بعد الأذان مباشرة ثم تمنح له البيضة المسلوقة متبوعة بقطعة من الدجاج وقطعة من الخبز.
وبعدها ينزل ليكمل طعامه رفقة العائلة على طاولة الإفطار بعدما كان في السابق يحرم منها لأنه لم يكن يصوم وبالتالي لا يستحق الجلوس على طاولة رمضان رفقة عائلته، وبعد استكمال الأفطار تمنح الهدايا والاموال للطفل الصائم كتشجيع له على قدرته على الصيام ودخوله أخيرا في صف الصائمين.

وضع الحنـة فــأل خــير للعازبــات والاطفـال الصغـار

بعد الانتهاء من الإفطار تقوم “النا تسعديت” بإحضار طبق الحنة ليزين سهرتهم العائلية، حيث تقوم بوضع الحنة على يد الفتيات العازبات التي تجتمع عندها لمشاركتها فرحة وأجواء هذه الليلة حيث توضع في الحنة قبل تبليلها بماء الزهر، بعض الاوراق من النباتات العطرية، العطر الى جانب العسل وهذا كفأل خير لهنّ من أجل الزواج.
 كما تقوم بتحضير خلطة من بعض النباتات العطرية، السكر، العطر وهذا لوضعه على كامل جسم الطفل حديث الولادة كفال خير لحياة جميلة مليئة بالمسرات والسعادة له، في حين تقوم بوضع الحنة في يدي العروس الجديدة والطفل الذي لم تمر عليه سنة وهذا تقليد متوارث في منطقة جرجرة وبعدها لا توضع لهما الحنة مجددا ليلة العيد على عكس باقي افراد العائلة.
عملية وضع الحنة ترافقها أغاني شعبية “اشويقن” أين تطلق فيها النسوة العنان لحناجرهن من أجل اضفاء اجواء من المرح والفرحة على تلك اللحظات، كما تقوم أخريات بمدح الرسول بكلمات وجمل ملحنة تستعيد من خلالها العائلات طعم واجواء رمضان التي عاشوها في كنف الاسلاف.

”ثيمشرط” وحفـــلات الختــان الجماعـي

تعود مظاهر التكافل الاجتماعي في شهر رمضان، لتعزز أسس التعاون والتلاحم في أبهى حلة وصورة، هذه المشاهد الجميلة التي تتكرر في عدة مناسبات خاصة شهر رمضان، أين يتسارع الجميع لتقديم يد العون والمساعدات للعائلات المعوزة والفقيرة، وهذا ما يتجسد فعليا في شهر رمضان خاصة ليلة القدر المباركة، التي تكون فرصة لتنظيم حفلات ختان جماعي تعطى فيها حصة الاسد للعائلات ذوي الدخل المحدود والعائلات الفقيرة وحتى اليتامى، حيث تعج المستشفيات بجمعيات ومحسنين يأخذون على عاتقهم تكاليف هذه العملية وادخال الفرحة الى قلوب العائلات والاطفال، الذين تقدم لهم هدايا وملابس لاستقبال العيد، وهذا ما يخفف على الاولياء معاناة العوز والفقر.
 كما تشهد عديد القرى تنظيم الوزيعة “ثيمشرط” هذه العادة الاجتماعية التي تعود سنويا لتزيد من اتحاد وتلاحم سكان القرى الذين يتساوى فيها الفقير والغني، ويستفيد الجميع من حقه من اللحم بعد التحضير لهذه العملية قبيل أيام من عيد الفطر، أين يجتمع رجال القرية ويقومون بالتبرع لشراء العجول على حسب عدد سكان القرية، على ان تنظم عملية الذبح في يوم السابع والعشرون من شهر رمضان وبعدها يقومون بتوزيعها على حسب عدد افراد العائلة، وبهذا تجتمع العائلات في القرى على تحضير الطعام يوم العيد باللحم ولا يبقى منزل دون لحم، وهذا ما يعزز أواصر التلاحم والتكافل الاجتماعي وينهي الفروقات الاجتماعية.
«النا تسعديت” تعتبر ليلة القدر أكثر من مناسبة دينية تتجلى فيها نسمات الاسلام والشعائر الدينية، واقبال السكان على الاجتهاد في العبادات والعمل الصالح، وإنما تأخذ أبعادا اجتماعية وثقافية تعود من خلالها العادات والتقاليد الى الواجهة، لتعود معها أواصر التكافل والتراحم الاجتماعي الذي يأخذ أجمل الصور والمشاهد التي تطغى على القرى وسط أجواء من الفرح والبهجة استعدادا لاستقبال عيد الفطر.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024