زربية «جبال عمور» ... عندما يكون الإبداع الحرفي منبعا لتعايش مشترك

جهاز الوكالة الوطنية لتسيير القرض المصغر يمول المشاريع

 التسويق والتسيير وإنشاء مؤسسات مصغرة في دورات تكوين

تختزل مضامين زربية «جبال عمور» ذات الصيت الواسع خصوصا في أوساط  حرفيي الجهة الشمالية لولاية الأغواط، حضارات متعددة تجمع تفاصيل مشهد متجانس لتعايش ثقافي مشترك ومتنوع وتعكس كذلك رسالة لتآلف اجتماعي ظل راسخا لقرون عديدة بين الأجيال المتعاقبة.
ولا يكاد يقام حدث حرفي أو تظاهرة تقليدية إلا وكانت هذه الزربية، التي تعد أنموذجا رائدا للإبداع الفني وسميت ب « جبال عمور « نسبة إلى الحيز الجغرافي الممتد من بلدية سبقاق غربا إلى بلدية البيضاء شرقا، حاضرة فيه وبقوة كشاهد على زخم تراثي يمزج بين عبق الأصالة ومتطلبات الحداثة.
وما زاد من عمق البعد الإنساني والتعايش المشترك عند استقراء دلالات ومضامين هذا المنتوج التقليدي هو اشتراك الأجيال المتعاقبة على المنطقة عبر الزمن في المحافظة عليه والتشبث به ، ويبرز ذلك من خلال طريقة نسجه ورسم أشكاله ورموزه ، وأيضا اختيار ألوانه المستوحاة بالأساس من الطبيعة الخلابة التي تتميز بها هذه المنطقة التي تجمع خصائص طبيعية خلابة.  
ولعل ما أكسب هذه الزربية العريقة أيضا شهرة تخطت الحدود وصيتا عالميا واسعا ، ليس نوعيتها وتميزها فحسب بل جذورها التاريخية الغابرة التي لم يستطع أي من الباحثين نسب مصدرها لبلد أو قبيلة بعينها ، مما جعلها إرثا إنسانيا مشتركا ‘’خالصا’’.
 
ثقافات متعددة يختزلها منتوج حرفي بديع

وتعكس زربية «جبال عمور’’ في مضمونها من رموز وأشكال ورسومات لثلاث حضارات  
وثقافات متباينة، التي تظهر لمساتها في النسخة الحالية للزربية ، مثلما أوضح مدير مركز الصناعات التقليدية بآفلو، فيصل ورنوغي ، وهو أيضا باحث مختص في زربية «جبال عمور « تحديدا.
ويتجلى ذلك في مجتمعات الصنهاجيين الأمازيغ مرورا بالعرب ثم الأتراك ، إذ تركت كل واحدة منها بصمتها الإثنية والسوسيولوجية محافظة كلها على ملامح قاعدة الزربية المتمثلة في الجزء السفلي منها كنقطة التقاء بين الجميع ، حسب ما ذكر المتحدث.
ونالت حروف التيفيناغ (الأبجدية التي يستخدمها الطوارق والأمازيغ لتدوين لغاتهم ) في عهد الأمازيغ النصيب الأوفر من الرسومات المستعملة ، فيما حافظ العرب بعدهم على الألوان وغيروا التقنيات وظهرت معهم مسميات جديدة .
وبدورهم أضفى الأتراك طابعهم وأطلقوا على « الرّ?مة « وطرق النسيج التي أضافوها على زربية « جبال عمور» أسماء مشتقة من قاموسهم اللغوي وكأنهم أرادوا منها أن تكون علامة مسجلة بأسمائهم على غرار «الخزناجية» و«الإسطنبولية»- وفق شروحات ذات المختص-.  
ويبرز مدى تجذر هذه الحرفة الفنية في ظهور قبل عقود ما يعرف ب « الر?ّام « ( واضع الرسومات والرموز والأشكال) ، ولمع في هذا المجال عديد الحرفيين الرجال حتى اقترنت ابتكاراتهم الحرفية بأنماط نسيج جديدة لتخطف الأضواء وقتها أنماط « فوضيل « و « الهتاك « و» بن عودة « وبقيت متداولة إلى عهد قريب.
وفي الوقت الراهن يتجه المهتمون بالزربية نحو التخصص أكثر فأكثر وأصبح كل عرش أو فرقة من عروش وفرق ‘’جبال عمور’’ ينجزها على طريقته دون المساس بالألوان والأشكال والرموز والتصاميم الأصلية ، حيث ظهر التمايز بين زرابي عروش «لعجالات» و»أولاد زيري» و»الحمازة «وغيرهم.
و رغم التحولات الإجتماعية الحاصلة ، فإن زربية « جبال عمور « لم تفقد قيمتها الفنية وبريقها كمنتوج حرفي تقليدي ، وأصرت على الإحتفاظ بمكانتها ولوج العالمية من أوسع أبوابها واستطاعت الصمود وبقوة أمام مغريات وأنواع المفروشات العصرية الجاهزة.
ومما يعطيها قيمة فنية راسخة هو ثراء النسيج المتوارث في المنطقة التي هي جزء منه، حيث تضم 20 لونا تغلب عليها ألوان الأحمر والأسود والأبيض والأصفر والأخضر ، وتُنسَج بخمس تقنيات أربع منها أفقية وواحدة عمودية نسبة إلى وضعية النسيج . فبالنسبة للتقنية العمودية فإنها تنضوي فيها زرابي « الخملة « و « لمسيَّح « و « لمصفّي» و « الجر « ولكل منها مقاسات محددة تتراوح بين المتر ونصف عرضا والخمسة أمتار طولا، علاوة على تعدد تسمياتها انطلاقا من حجمها وتقنية نسجها ، فهناك « القطيفة « و « المطرح « و « الكسا».  
أما التقنية الأفقية فإنها تقتصر على ما يسمى بـ» الملقوط « الموجه بالأساس لإنجاز « الفليج « الذي هو مكون رئيسي للخيمة الصحراوية ، علما أن هذه التقنية لم يعرفها الأمازيغ بحكم أنهم كانوا يسكنون القصور ، حسب تأكيد الباحث فيصل ورنوغي.
إن تحديد المجال الجغرافي لانتشار هذه الزربية العريقة لا يعني عدم الإهتمام بها في مناطق أخرى من الوطن ، إذ ومن أصل 21 نوعا من الزرابي على المستوى الوطني تتواجد زربية « جبال عمور « في ثماني (8) ولايات معظمها من مناطق الهضاب العليا.
ولم تكتف « مفخرة « سكان الأغواط عموما وآفلو وما جاورها خصوصا بهذا التراث الحرفي الأصيل بل تجاوز الشغف بها تراب الوطن باعتبارها محل طلب متزايد من الأجانب ، حيث اقتنتها ممثليات ديبلوماسية أجنبية لاستعمالها أفرشة أو معروضات ، كما انتزعت أيضا جوائز دولية من بينها الجائزة الذهبية للنوعية من إسبانيا سنة 1992.
 
إبراز الذات وترسيخ قيم التآلف والتضامن الإجتماعي

وتُجمِعُ حرفيات ممارسات لصناعة الزرابي بالأغواط أن هذا النشاط الذي يعيش « أزهى عصوره « شكل لهن فرصة مواتية من أجل تفجير طاقاتهن الفنية والإبداعية الكامنة من جهة ولترسيخ من جهة أخرى قيم التعايش المشترك والتآلف والتضامن في أوساط المجتمع.
وترى في هذا الشأن رئيسة جمعية « المعرفة والتنوير «، لغلاغ مباركة  ، أن تعلم الحرفة يلقى رواجا واسعا  من قبل الفتيات ومن كافة المستويات التعليمية و الإجتماعية على حد سواء لكونه يتيح المجال للتعبير عن المواهب والمهارات ولمحاكاة ما سلف من إبداعات الأمهات والجدات».
«كما تساعد الحرفة التقليدية على استرجاع وإحياء عادات تحمل قيما إجتماعية ثمينة ومتعددة سيما وأن بعضها مهدد بالإندثار على غرار عادة التويزة ( التعاون الجماعي) ، وذلك من خلال تكريسها في شتى مراحل إنجاز الزربية بكل ما يحمله ذلك في طياته من قيم للتضامن والتكاتف بين أبناء المجتمع الواحد’’ تضيف ذات الحرفية .
ومما شجع على التمسك بهذه الحرفة المعبرة عن تواصل الأجيال ومضاعفة فتح ورشات تعليمها للأجيال الناشئة وتحديدا العنصر النسوي ، توفر آليات لتمويلها وفي  مقدمتها جهاز الوكالة الوطنية لتسيير القرض المصغر.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19472

العدد 19472

الجمعة 17 ماي 2024
العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024