إذا كان معروفا أن الأطباء والممرضين والعاملين في المستشفيات عموما، في مواجهة يومية مع موت محقق بسبب «كوفيد-19»، تقف معهم عدة شرائح من أسلاك أخرى تخاطر أيضا بحياتها، على غرار الأسلاك الأمنية وغيرها، لكن هل يعرف الجزائري بأن ضباط الإرشاد العاملين بالموانئ، بدورهم يقفون في الصف الأول وحياتهم عرضة للخطر، وإن كان بدرجة أقل؛ذلك أنهم يتنقلون الى السفن القادمة من كل دول العالم بما فيها المتضررة، ويكونون على احتكاك بطاقمها، ليبحروا بها من خليج الميناء الى المرفأ، إلى جانب زملائهم من بحارة الميناء وضباط القطر بمعية طواقمهم الذين يقومون بإدخال السفن الناقلة للسلع، والمواد الأساسية، وهو ما سلطت «الشعب» الضوء عليه وعلى مهامهم.
في الوقت الذي توقفت فيه الطائرات عن الطيران، بعدما تسبب «كوفيد-19» في اصطفافها عبر كل مطارات العالم تقريبا، لم تتوقف الملاحة البحرية لحسن الحظ؛ ذلك أن البواخر الناقلة للمواد الأساسية، مستمرة في عملها بشكل عادي وان نقص عددها، لاسيما منها القادمة من البلدان الأكثر تضررا بالضفة الأخرى من المتوسط.
وعلى عكس ما يعتقده كثيرون، فإن ربان السفينة مدعما بطاقمه ليس من يقود سفينته الى غاية رصيف الشحن بالميناء، لأن مهمته إيصال السفينة بأمان إلى خليج الميناء بالتحديد نحو إحداثيات معلومة مسبقا تسمى موقع صعود قائد الإرشاد، لينتقل إليه هذا الأخير على متن زورق الإرشاد، مهما كانت وضعية الملاحة وكذا الطقس الجوي، ويتولى مهمة مستشار ربان السفينة، ويعطي أوامر وتعليمات الرسو لربان السفينة ومن ثمة لطاقمه من خلال القيام بعديد المناورات البحرية التي تتطلب منتهى الخبرة، معرفة الميناء، الدقة والحذر.
ويصنف القانون البحري خدمة الإرشاد البحري، في خانة الخدمة الإستشارية ويحدد مسؤوليته قائد الإرشاد تجاه قيادة السفن القادمة، لكن المعمول به في الواقع أن ربان السفينة يولي مهام قيادة سفينته إلى قائد الإرشاد البحري بصفة تلقائية بحكم الثقة المبنية بينهما من قدم هذه المهنة.
ضباط الإرشاد الذين تقع عليهم مهمة محورية، مدعمين ببحارة الميناء وضباط وبحارة القطر، تقع عليهم مسؤولية في غاية الأهمية؛ ذلك أنهم يبحرون بسفن السلع التي تأتي محملة بالقمح والسكر والزيت والدقيق والقهوة، ولكن كذلك بالمازوت والبنزين من سكيكدة وأرزيو، فئة غير معروفة من العمال لدى الجزائريين عموما على الأرجح، رغم أنهم يجازفون بحياتهم، باعتبارهم اول من يصعد على متن الباخرة، بسبب الأحوال الجوية التي لا تسهل مهمتهم، ولكن أيضا بسبب إمكانية انتقال العدوى، في حال كان أحد طاقم أفراد الباخرة القادمة حاملا للفيروس، لاسيما وأن أطباء الصحة البحرية لا يفحصون طاقم السفينة خارج حدود الميناء، لاستحالة صعودهم في عرض البحر بسبب تقلبات الأحوال الجوية، ويقومون بذلك لاحقا بعدما يقوم قائد الإرشاد البحري بإيصالها إلى الرصيف.
ورغم تراجع حركة السفن للانتشار الرهيب للفيروس في أوروبا وكثيرا من دول العالم، يستمر عمل ضباط الإرشاد 24 ساعة كاملة، ليضمنوا رسو الباخرة في الرصيف وتفريغ حمولتها، إلى جانب بحارة الميناء وضباط القطر وطواقمهم، الذين يبذلون بدورهم جهودا جبارة.
ضباط الإرشاد البحري الذين يقومون بتكوين أولي على مستوى الجامعة الجزائرية وتحديدا العلوم والتكنولوجيا لمدة عامين، قبل أن يلتحقوا بمدرسة البحرية ببوسماعيل، التي تدرس تخصص مهندس في علوم الإبحار ومهندس في الميكانيك البحرية، حيث يقوم الطالب بتربصات على متن السفن المدنية، هم ضباط سطح وربان باخرة في الأساس، وهم فقط من بإمكانهم التوجه إلى تخصص الإرشاد البحري، حيث يقوم الطالب بتربصات على متن السفن المدنية، بعد التخرج بصفة ضباط سطح يتدرجون في رتب ضباط البحرية إلى درجة ربان أو ربان ثان وهم فقط بإمكانهم التوجه إلى تخصص الإرشاد البحري بعد تربص مضبوط بقوانين صارمة.
وتماما كالطائرة التي يقودها قبطان مرفوق بطاقمه، فإن الربان مرفوق بطاقمه أيضا من يبحر بالباخرة المحملة بالسلع، التي ترسو بالخليج، أين تنتهي مهمة الربان، في انتظار قدوم زورق ضابط الإرشاد الذي يقودها الى الميناء بعد القيام بمناورات دقيقة، لاسيما وأن السفن عادة ما يضاهي طولها 200 متر.
السلع تصل إلى الموانئ كل يوم
المهندس «ع.ع»، أحد الأمثلة الحية عن زملائه، الذين يعملون جنبا إلى جنب مع كل المصالح المعنية بعملهم، حرص على التوضيح في اتصال مع «الشعب»، أنه حركة السفن التجارية لم تتوقف لحسن الحظ، وإن قل عدد تلك القادمة من أوروبا. ورغم الخطورة المنجرة عن ذلك، لزيادة احتمال الإصابة بالعدوى لدى الاحتكاك بأطقمها، إلا أننا -استطرد - «لم نتخلف يوما عن أداء مهامنا، لضمان تموين الجزائريين بالسلع، لاسيما في هذه الأوقات الحرجة التي عادة ما يخشى فيها المواطن من الندرة. علما ان الحركة، تحسبا لذلك، لم تتوقف وإن تراجعت قليلا من الدول الأكثر عرضة لـ «كوفيد.19».
ولعل السلع التي لم تتوقف يوما عن الدخول إلى الموانئ، المازوت والبنزين، التي تنقلها السفن من سكيكدة وأرزيو، كما تصل مواد أخرى واسعة الاستهلاك بصفة منتظمة، على غرار القهوة والسكر والزيت وبودرة الحليب، فيما يتم استيراد الحبوب حصريا من قبل الديوان الوطني للحبوب، سلع ومواد كلها متوافرة بالقدر الكافي إلى حد الآن، ولا حاجة لقلق المواطن من ندرتها، لاسيما وأن عمل ضباط الإرشاد مستمر على مدار 24 ساعة، يضمن دخول كل السفن التجارية وتفريغ البضائع، وعددها يقدر بحوالي 11 الى 12 باخرة.
تكييف عمل سلسلة التموين مع الحجر
ورغم الاستقرار في عدد البواخر، إلا أن فرض حظر تجوال أدى الى تغيير مواقيت عمل سلسلة التموين التي تمتد من الثامنة والنصف صباحا إلى الرابعة والنصف مساء، الذي أثر نوعا ما على احترام مواعيد رسو السفن.
بخصوص التعامل مع طاقم الباخرة عندما يصعد إلى متنها، أشار المهندس ضابط الإرشاد ع.ع، أنه يخاطب ربان الباخرة ويسأله إذا كان الطاقم وهو شخصيا غير مصابين بأي مرض أو أعراض، وأين رست الباخرة في آخر مرة ونزول طاقمها من عدمه إلى اليابسة، وبمجرد التأكد يتنقل عبر زورق بمعية زملائه، لافتا أن التعامل يتم على اساس ثقة متبادلة في التعامل، وذلك لا يمنع بأي حال من الأحوال من اتخاذ تدابير احترازية بارتداء الملابس الواقية، إلى جانب الكمامة والقفازات.
واستنادا إليه، فإن المنظمة العالمية للملاحة البحرية قامت بخطوة جيدة، في ظل خطورة الظرف الراهن، تقضي بمنع تغيير الأطقم التي يتراوح عدد الواحد منها ما بين 20 إلى 30 فردا، علما أنهم يعملون بعقود تمتد إلى 3 أو 4 أشهر؛ أمر يساعد على ضمان عدم إصابتهم بالعدوى، لاسيما وأنهم يحرصون على عدم مغادرة الباخرة، وإن كان ثمن ذلك عدم مغادرة البعض منهم السفن مدة لا تقل عن ستة أشهر.
والحكمة أن حركة الطيران شلت، باعتبارها ناقلة للفيروس، وأن نشاط السفن لم يتوقف، فبقي البحر يعج بحركة السفن التي تزود كل الدول بالإمدادات، غذائية وطبية ومستلزمات أخرى، ولتكون الباخرة الآن وفق المهندس «ع.ع» من وسائل النقل الأكثر أمانا في الظرف الراهن، تحت إشراف ضباط الإرشاد الذين يقفون في الصف الأول لضمان دخول السلع والمواد ألى الميناء، وبذلك يكتسي عملهم بالغ الأهمية.