لاشك أن كورونا أعطى دروسا وغيّر الكثير من السلوكيات الاجتماعية للأفراد وساهم في توجيه الأنظار للالتفات أكثر والاهتمام بصحة الإنسان، بالإضافة إلى تعديلات جاء بها هذا الفيروس ومست عدة مظاهر اجتماعية أخرى، على غرار احترام مسافة التباعد الاجتماعي. وهنا يستدل الدكتور أحمد بجاج، الأستاذ في علم الاجتماع بجامعة غليزان، بمثل شعبي يردد في الثقافة الشفوية التارقية يقول: «بعدو خيامكم وقربوا قلوبكم»؛ بمعنى باعدوا بين مساكنكم في رحاب الصحراء، ولكن لتبقى قلوبكم ومشاعركم وعلاقاتكم الاجتماعية مترابطة ومتراصة، وهذه مقولة تنطبق على وضعنا الحالي في ظل انتشار وباء كورونا كوفيد.19.
بالنسبة للدكتور بجاج، فإن المرض ظاهرة اجتماعية ليس من حيث فهمه وتفسيره وإنما أيضا من حيث توزيعه وانتشاره عبر المجتمعات، حيث نجد بعض الأمراض مازالت منتشرة في مجتمعات متخلفة، مثل الكوليرا والسل... إلخ، تعكس المستوى الصحي والاقتصادي والاجتماعي للبلد، بينما هذه الأمراض لا يمكن الحديث عنها في مجتمعات متطورة، إذ تصنف درجة تطور الدول بحسب نوعية الأمراض وانتشارها.
وبحسب د. بجاج، فإن وباء كوفيد-19 الذي باغت العالم كله وقلب القاعدة ولم يسلم منه أي مجتمع وفي كل دول العالم سلّط الضوء على مدى قدرة المجتمع والدول في معالجته ليس فقط عبر قوة منظومتها الصحية وإنما عبر طبيعة الأطر الثقافية والاجتماعية التي توجه سلوك الأفراد نحو موضوع الصحة والمرض، مما يسهل من وظائف وعمل مؤسسات الدولة وتدخلاتها لمكافحة هذا الوباء الخطير.
من هذا المنطلق، يقول محدثنا، إن التأكيد على أن المرض ظاهرة اجتماعية يؤسس لفكرة أنه ليس حالة فردية معزولة، باعتبار أن الفرد أو الفاعل الاجتماعي كائن اجتماعي ثقافي تربطه صلات وروابط مع الآخر وبالتالي إمكانية الانتقال وانتشار المرض في حالة المرض المعدي وارد، مما يستدعي إعادة توجيه هذه السلوكات الاجتماعية وتكييفها مع الواقع، من حيث النظافة أولا. وثانيا الابتعاد عن الاحتكاك الجسدي والتجمعات، سواء في مكان العمل أو المناسبات أو في المواقع العامة والمتاجر والمساجد ودور العبادة...إلخ.
وعن استغلال كورونا كظرف خاص لإمكانية استفادة المجتمع من بعض التعديلات الايجابية على السلوك العام، أكد الأستاذ أحمد بجاج أن ذلك ممكن من خلال تعزيز استمرارية التوعية الصحية لمختلف المؤسسات ومنها أيضا انخراط المجتمع المدني في التوعية والمساهمة في إرساء قواعد التغيير في ممارساتنا الاجتماعية وذلك عبر إعادة النظر في الخلفيات الثقافية والاجتماعية التي تنتج وتعيد إنتاج هذه السلوكات والأفعال الاجتماعية ومنها ظاهرة الاحتفالات والأعراس وما يصاحبها من تبذير ومباهاة وتنافس بين الأسر والحث على اعتماد قواعد أكثر عقلانية واقتصادية مثل تقليل المصاريف وكذلك تحديد إطار الاحتفال ضمن مجال اجتماعي ضيق.
أما عن أهم الدروس التي قدمها انتشار فيروس كوفيد-19، فقد أوضح أن هذه الجائحة قد أكدت أن لا بديل عن التماسك الاجتماعي والمجتمعي، حيث قوة المجتمع تكمن في الانضباط والالتزام والتعاون بين الأفراد والكيانات الاجتماعية ولا بديل عن الدولة الوطنية التي تكمن قوتها في نظامها الصحي وقوة مؤسساتها الأمنية والإعلامية والتربوية والعلمية وكافة القطاعات وتعزيز مؤسسات التنشئة الاجتماعية لبناء الشخص المواطن.
وفيما يخص المؤسسات التربوية والتعليمية، سجل الأستاذ في علم الاجتماع بجامعة غليزان، في هذا المقام انخراط المؤسسة الإعلامية العمومية والخاصة في مجال الفعل التربوي وأيضا الاستفادة من وسائط الإعلام الجديد كمنصات تعليمية لمواصلة العملية التعليمية والتي باشرت في تنفيذها وزارة التعليم العالي عبر أطقمها البيداغوجية، وهي عملية لها نتائج إيجابية يمكن اعتمادها حتى في الظروف العادية، لأن المرض والصحة كظاهرة اجتماعية لا يمكن اختزال حلوله في التدخل الطبي وما تصنعه المخابر العلمية، وإنما أيضا يحتاج إلى مقاربة ثقافية اجتماعية لفهم السلوك والأطر الثقافية التي توجه سلوك الأفراد وتصوراتهم نحو المرض والصحة.
وعن حالة المجتمع الجزائري، اعتبر محدثنا أن المشكل يكمن في التعارض الصارخ بين الممارسات التقليدية بحكم القيم والعادات ومقتضيات العقلنة أمام المشكلات الحديثة والتي يفرضها الواقع وضرورية التحديث والانخراط في شروط التقدم والتطور ليس فقط على مستوى الهياكل والمنشآت وإنما على مستوى الفعل والسلوك والممارسات الاجتماعية. ومن المشاهد التي تعبر عن ذلك، الصعوبات التي تواجهها الجهات العمومية المعنية لفرض الحجر الصحي وعدم الالتزام الصارم بقواعد الحجر الصحي وشروط الوقاية من طرف الأفراد والاستمرار في التجمعات وتنظيم الأعراس والمناسبات الاجتماعية وطريقة الإقبال على المحلات نتيجة الخوف من المجهول بحسب تعبير علماء النفس الاجتماعي.