صراخ إعلامي لا يفيد في بناء علاقات احترام متبادل
في ضوء تطوّرات الأزمة الدبلوماسية بين الجزائر وفرنسا، تواصل باريس ارتباكها إزاء مواقف الجزائر السيادية، لتكتفي بردود فعل تشبه “الصّراخ الإعلامي” أكثر منها قرارات مدروسة. لاسيما قرارها الأخير باستدعاء سفيرها من الجزائر، ومطالبة موظفين من القنصليات الجزائرية مغادرة فرنسا.
لم يُقرأ هذا الفعل سوى كخطوة انفعالية أمام موقف جزائري صلب ومدروس وموجّه بدقة، استند إلى اتفاقيات دولية وقواعد القانون الدولي التي تحمي الموظفين القنصليين من التعسف والانتهاكات، خصوصًا بعد حادثة توقيف موظف قنصلي جزائري في ظروف تعسفية وغير قانونية.
الجزائر، من جهتها، لم تتصرف كرد فعل، بل بموقف صريح يؤكّد أنها لم تعد تقبل بسياسة التجاوز الفرنسي، وأثبتت أنها قادرة على فرض توازن جديد في العلاقة الثنائية، قائم على الاحترام المتبادل لا على ماضٍ استعماري ولىّ وانتهى.
ولقد كان طرد 12 دبلوماسيًا فرنسيًا ينتمون لوزارة الداخلية، رسالة واضحة بأنّ الجزائر تحدّد بدقة المسؤول عن الأزمة، وتحمّله تبعاتها دون أن تعمّم الاتهام على الدولة الفرنسية ككلّ.
وفي السياق، يرى عدد من المحلّلين أنّ فرنسا التي لا تزال تقارب علاقتها مع الجزائر بذهنية متعالية، دخلت في مواجهة خاسرة لا تملك فيها أدوات التأثير ولا مفاتيح القوة. وفي هذا الإطار، جاءت تصريحات هنري غواينو، المستشار السابق للرئيس نيكولا ساركوزي، لتؤكّد عمق المأزق الفرنسي، حيث أقرّ صراحة بأنّ باريس “في موقع ضعف دبلوماسي”، و«لا تملك وسائل ردع فاعلة” أمام الجزائر، معتبرًا أن التصعيد الحالي يفتقر لأدنى شروط الفاعلية السياسية، لأنه لا يقوم على أفكار واضحة، ولا يستند إلى أفعال مدروسة، بل يتغذى على ردود انفعالية ومنطق عقوبات تطال الجالية.
علاوة على ذلك، أوضح غواينو أنّ سياسة “الرد بالمثل” التي تبنّتها باريس في طرد الدبلوماسيين لا معنى لها، ما دامت لا تستند إلى ميزان قوى واقعي، مضيفًا أنّ فرنسا لا تملك اليوم شيئًا يُحسب كأداة ضغط: لا تحويلات مالية مؤثّرة، ولا قيود فعالة على التأشيرات، ولا نفوذ حقيقي على صناع القرار في الجزائر.
كذلك، لفت غواينو إلى أنّ فرنسا تواجه عزلة متزايدة، حيث تتراجع مكانتها التقليدية في المتوسط وإفريقيا، مقابل توسع علاقات الجزائر مع قوى كبرى مثل روسيا، الصين والولايات المتحدة الأمريكية.
وفي سياق متصل، جاءت تحليلات الصحافي الفرنسي الجزائري الأصل، وكبير كتاب الافتتاحية في قناة “تي في 5”، سليمان زغيدور، لتؤكّد انزلاقًا خطيرًا في السياسة الفرنسية، معتبرًا أن توقيف موظف دبلوماسي جزائري مؤخرًا يمثل سابقة خطيرة في تاريخ العلاقات بين البلدين منذ الاستقلال.
وأوضح زغيدور أنّ الجزائر كانت تتعامل مع القضية عبر القنوات القانونية منذ أكثر من عام، ما يجعل التصرّف الفرنسي الأخير مريبًا، خصوصًا مع توقيته المتزامن مع محاولات التقارب بين الرئيسين تبون وماكرون، ما يطرح تساؤلات حول وجود أطراف داخل فرنسا تسعى لإفشال مساعي التهدئة.
كما أنّ زغيدور - في تحليله - بيّن أن المسؤولية تقع على وزير الداخلية الفرنسي برونو روتايو، إذ إن جميع الدبلوماسيين المطرودين يتبعون لوزارته، وهو ما يوضّح أن الجزائر لم تستهدف الدولة الفرنسية، بل حملت الوزير المعني مسؤولية الأزمة. في نفس الإطار، أشار إلى أنّ هناك شبكات داخلية في فرنسا تتبنّى منطق المواجهة، وتشتغل خارج أجندة التهدئة التي يروّج لها الرئيس الفرنسي، ما يؤكّد أنّ صراع المصالح الداخلية الفرنسية بات ينعكس بشكل مباشر على علاقاتها الخارجية، وعلى رأسها العلاقة مع الجزائر.
ويرى العديد من المتابعين أنّ المواقف الرسمية والإعلامية الفرنسية، رغم ضجيجها، لا تخفي واقعًا دبلوماسيًا مأزومًا، تؤكّده اعترافات سياسيّيها وخبرائها. وفي المقابل، تواصل الجزائر السير بخطى ثابتة، دفاعًا عن سيادتها وكرامتها، مؤكّدة أن زمن الإملاءات والتدخلات قد انتهى، وأنّ علاقتها مع فرنسا لن تُبنى إلا على الندية والاحترام الكامل.