الجزائر بتاريخها العريق والحافل، تمتلك ذاكرة مفعمة بالبطولات والنخوة الشعبية تجاه الوطن الأم، حيث قامت بأعظم ثورات التاريخ الحديث في القرن العشرين، ألا وهي ثورة التحرير الوطنية المظفرة ضد الاستعمار، جعلت منها بلدا ذا شأن عال بين الأمم ومصدر إلهام لكثير من دول العالم.
شهدت الجزائر، قبيل اندلاع ثورة التحرير الخالدة في الفاتح من نوفمبر 1954، عدة أحداث أيقظت ضمير الجزائريين، وكانت منطلقا لتحول نهجهم التحرري من العمل السياسي إلى الكفاح المسلح ضد الاحتلال الفرنسي الغاشم، ونيل حرية مضرجة بدماء الملايين بعد طوفان ثوري حطّم أغلال المستعمرين وجرفهم وراء البحر بعيدًا عن أرض الشهداء الطاهرة الأبية.
ومثّلت جريمة الثامن ماي 1945 نقطة حاسمة وفارقة في تاريخ الجزائر، بأحداثها الأليمة ووقائعها المروعة التي خلفت سقوط أزيد من 45 ألف شهيد من المتظاهرين سلميا برشاشات الجنود الفرنسيين في سطيف وقالمة وخراطة، من أجل تذكير باريس بوعدها والظفر بحقهم في الاستقلال إثر انتصار الحلفاء بالحرب العالمية الثانية، فكانت هذه المحنة بمثابة اختبار نوايا أخير قرر فيه الشعب الجزائري بجميع مكوناته وأطيافه افتكاك حريته بالقوة وصناعة ملحمة أول نوفمبر الثورية المجيدة.
وبالرغم من مرور ثمانين سنة على هذه المجزرة البشعة، تأبى الجزائر نسيانها، وتعكف كل سنة على إحيائها بتنظيم عديد التظاهرات والفعاليات التاريخية والثقافية والرمزية، تخليدا للأرواح التي سقطت فيها، ولتفضح جرائم فرنسا المتنكّرة بدناءة لماضيها الأسود إلى اليوم.
ويحمل هذا المُعطى في مدلوله، إخلاصًا جزائريًا رسميًا لتضحيات الشهداء والمجاهدين الأبطال خلال كل مراحل الكفاح والمقاومة الشعبية ضد الاستعمار، وتعزز أكثر منذ وصول رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، إلى سدة الحكم نهاية سنة 2019، وإقراره يوما وطنيا للذاكرة بمناسبة إحياء مجازر الثامن ماي.
جرائم ماي.. وصمة عار أبدية
وفي السياق، أكد الدكتور لخضر سعيداني، أستاذ التاريخ بجامعة تيسمسيلت ورئيس الجمعية التاريخية «أصدقاء باب البكّوش»، أن مجازر 8 ماي 1945 ستبقى وصفه عار في جبين الاستعمار الفرنسي؛ إذ أنها ترقى إلى مصاف الإبادة الجماعية.
وعاد الدكتور سعيداني في حديثه مع «الشعب»، بالتفاصيل إلى الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، أين تم حل حزب الشعب الجزائري من طرف الفرنسيين في مارس من عام 1937، كما جرى توقيف كل من البشير الإبراهيمي ونفيه إلى آفلو، واعتقال ميصالي الحاج وتحويله لقصر الشلالة.
وخلال هذه المرحلة، مثلما أضاف، لعب فرحات عباس دورًا رئيسيًا وكتب بيانًا اُشتهر لاحقًا ببيان فيفري 1943 وسلمه إلى الحلفاء البريطانيين والأمريكيين من أجل الدفع بالقضية الجزائرية، محاولاً استغلال ظروف الحرب بعد سقوط باريس وتأسيس حكومة المهجر في لندن، وأنشأ حينها حزب أحباب البيان والحرية في عام 1944، من أجل توحيد جهود وصفوف الجزائريين خلال فترة الحرب.
وتابع المتحدث: «شكل ربيع عام 1945 مرحلة عدم استقرار في الجزائر بعد سقوط فرنسا وتأسيس حكومة بيتان الموالية لألمانيا في برلين، حيث حدثت عدة مظاهرات خلال شهر مارس في قسنطينة وقالمة وثنية الحد، وفي أفريل من نفس السنة بقصر الشلالة. غير أن البداية الحقيقية لما حدث في 8 ماي بدأت في الفاتح من نفس الشهر، حيث نظم الفرنسيون مظاهرات بمناسبة عيد العمال ليرد عليهم الجزائريون بمظاهرات مماثلة تواصلت حتى 7 ماي يوم الإعلان عن الانتصار على النازية».
وفي صبيحة الثامن ماي، خرج الجزائريون في مظاهرات سلمية حاملين العلم الوطني على أمل أن تمكنهم مساهمتهم في الانتصار على النازية ومشاركتهم الفعالة فيها من تحقيق الوعود بالاستقلال، إلاّ أن السلطات الفرنسية استخدمت كل ما توفر لها من قوة لقمعهم، في صورة عبرت عن وحشية الاستعمار الذي نسي تماما المبادئ المزعومة للثورة الفرنسية، إذ تشير التقارير إلى استخدام رشاشات وأكثر من 150 طائرة للقصف بمعدل 300 غارة يوميا، إضافة إلى التنكيل بالجزائريين من خلال رميهم من أعالي الجبال والجسور ووضعهم داخل أفران مشتعلة، يذكر المختص الدكتور لخضر سعيداني.
هذه المجازر الوحشية وغيرها من الجرائم التي استخدمت فيها فرنسا الأسلحة المحرمة دولية، وإلى جانب التضحيات البطولية للشعب الجزائري وثورته المجيدة، تشكل صورة الجزائر كبلد رائد في الكفاح التحرري، يحظى باحترام المجتمع الدولي.
غير أن الرصيد التاريخي للجزائر، واستماتها في رسم مسارها المستقل، والثابت على المواقف، يسقط كل تلك الحملات الإعلامية في الماء، إذ لا تصمد الدعايات المغرضة أمام الحقائق المثبتة والمواقف المشرفة.