اليمين المتطرف يتمسك بأدوات سياسيـة بلهاء تجــاوزها الزمن
فرنسا التي تعلم جيدا أن مبدأ المعاملة بالمثـل مكفول دوليا أصبحـت متخبطــة
الاستمرار الفرنسي في ممارسات ازدواجية لن يقود إلا إلى مزيـــد من العزلـة والتـوتر
في موقف حازم يعكس يقظة سيادية صارمة من الجزائر ورفضًا قاطعًا لأي اختراق للأعراف الدبلوماسية المعمول بها، طالبت الجزائر رسميًا، أمس الأول، بترحيل فوري لجميع الموظفين الفرنسيين الذين تم تعيينهم في ظروف مخالفة للإجراءات القانونية المتعارف عليها.
ويعكس هذا التصعيد الدبلوماسي، أزمة حقيقية تعيشها فرنسا هذه الأيام، سببها الأساسي توجهات وزير الداخلية برونو روتايو، الذي أصبح يحمل صفات الشرير والوضيع والوقح، من طرف شرائح واسعة من الفرنسيين أنفسهم، والذي يمثل امتدادًا لتوجهات اليمين المتطرف داخل الحكومة الفرنسية، وهو ما طالبته مظاهرات حاشدة بباريس بالرحيل والاستقالة.
لم يعد خافيًا على أحد أن فرنسا، التي طالما ادعت اعتماد نهج «قبضة حديدية» بليدة تجاه الجزائر، تمارس في الخفاء سلوكًا مغايرًا تمامًا، يدل على عجزها الكامل عن تحمل تبعات توجهات سياستها العدائية تجاه الجزائر.
فضيحة محاولة اختراق الأعراف الدبلوماسية وقوانين بلد ذي سيادة، من أجل تعيين موظفين في مناصب دبلوماسية، ينمّ عن نفاق فرنسي مفضوح، يظهر تناقض حدة الخطاب السياسي الذي يدعي التلويح بقبضة حديدية تارة، ومحاولة لعب ورقة الإنسانية فيما يتعلق بالدبلوماسيين الذين تم طردهم من الجزائر منتصف الشهر الماضي.
لكن باريس التي تظهر «براعة» في اعتناق ازدواجية المعايير، تعرقل، برأي مراقبين، بشكل متكرر منح اعتمادات قناصلة جزائريين منذ 5 أشهر، وتفرض قيودًا غير مبررة على دخول حاملي جوازات السفر الدبلوماسية الجزائرية، تقوم في المقابل بتجاوز القانون بشكل فاضح عبر إرسال موظفين إلى الجزائر دون المرور بالإجراءات الرسمية المتعارف عليها.
فرنسا التي تعلم جيدا، أن مبدأ المعاملة بالمثل مكفول في القوانين والأعراف الدولية، تظهر متخبطة في حسم توجهات سياستها مع الجزائر، فهي غير قادرة على تحمل تبعات ما يصفه وزير الداخلية الحاقد برونو روتايو بـ «التصعيد التدريجي»، وإلا ما كانت لتلجأ إلى أساليب احتيالية لتعيين موظفيها بسفارتها لدى الجزائر.
كذلك، فإن المعلومات المؤكدة حول تعيين خمسة عشر موظفًا فرنسيًا مؤخرًا دون إشعار مسبق أو طلب اعتماد، تؤكد نية فرنسا في التحايل على القوانين، لاسيما بعد أن تم تسليم بعضهم جوازات دبلوماسية بدلاً من جوازات المهمة، في محاولة لتمريرهم عبر المسالك الرسمية بطريقة غير مشروعة. علاوة على ذلك، فإن إدراج موظفين تابعين لوزارة الداخلية الفرنسية، يُعتقد أنهم سيعوضون 12 موظفًا سبق أن طردتهم الجزائر، يكشف توجهًا فرنسيًا لا يحترم السيادة الجزائرية، وهو ما ترفضه الجزائر بشكل قاطع.
بالإضافة إلى ذلك، فإن محاولة فرنسا الإبقاء على بعض هؤلاء الموظفين، رغم رفض الجزائر المسبق، يعكس تحديًا مستترًا لمبدإ المعاملة بالمثل، ويؤكد غياب الإرادة السياسية الحقيقية في باريس لبناء علاقة متوازنة مع الجزائر.
في سياق متصل، فإن هذه الممارسات تتم في وقت تعرف فيه الساحة الفرنسية الداخلية انقسامًا سياسيًا واضحًا، حيث تسعى أطراف عديدة من النخبة السياسية إلى تجاوز هذا التوتر الدبلوماسي والعودة إلى علاقات قائمة على الاحترام، في حين تدفع تيارات اليمين المتطرف، ومنهم روتايو، نحو التصعيد وفرض أجندات أيديولوجية ضيقة تؤثر على فرنسا نفسها.
ولقد تعاملت الجزائر، وفق ملاحظين، مع الملف بحزم ووضوح، حيث استدعت القائم بالأعمال الفرنسي لتقديم احتجاج رسمي، وأكدت على ضرورة ترحيل جميع الموظفين المعنيين بشكل عاجل. ويعكس هذا الرد يقظة جزائرية عالية وقدرة على رصد كل التجاوزات، القانونية والسياسية التي تحاول بعض الدوائر الفرنسية تمريرها بصمت.
وفي المحصلة، فإن الأزمة الحالية التي تعيشها فرنسا وتحاول أن تصدرها للخارج، لم تعد مجرد خلل إداري أو خلاف دبلوماسي عابر، بل هي انعكاس لسياسات فرنسية قصيرة النظر، يدفع ثمنها كل من يسعى داخل فرنسا نفسها إلى إعادة بناء جسور الثقة مع الجزائر الدولة الأكبر في أفريقيا.
وبين تهور وزير الداخلية برونو روتايو، وصمت الرئاسة الفرنسية، تبقى باريس أمام اختبار حقيقي؛ إما احترام الأعراف الدولية، أو الاستمرار في ممارسات ازدواجية لا تقود إلا إلى مزيد من العزلة والتوتر.
كما لايزال اليمين المتطرف في فرنسا، ومن يمثله داخل الحكومة، متمسكًا بأدوات سياسية تجاوزها الزمن، ويُظهر ارتباطًا مرضيًا بماضٍ استعماري انهزم أمام إرادة الجزائريين. ويواصل هذا التيار استغلال قضايا الهجرة والجالية الجزائرية في فرنسا، لتغذية خطاب الكراهية والعنصرية، في وقت تفتقر فيه برامجه السياسية والاقتصادية لأي حلول حقيقية للأزمات المتتالية التي تمر بها فرنسا.
في المقابل، تمضي الجزائر بثبات في نهج سيادي واضح، يرفض منطق الهيمنة أو أي تجاوز لحدود السيادة الوطنية، ويقف بالمرصاد لكل محاولات التلاعب أو فرض نظرة فوقية، كما يؤكد حرصها على حماية الأمن الإقليمي وصونه من أي تدخل أو زعزعة.