تحمل كلمة رئيس الجمهورية في أشغال الدورة الخامسة للقمة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية، المنعقدة في إطار الدورة 34 للقمة العربية بغداد، أبعادا استراتيجية تعبر عن رؤية متقدمة ومقلقة في آنٍ واحد تجاه التحديات والفرص التي تواجه الدول العربية في سياق التحولات الاقتصادية والتكنولوجية العالمية، بحسب ما يرى المستشار الدولي في التنمية الاقتصادية عبد الرحمن هادف.
أبرز الخبير هادف، استنادا لخطاب رئيس الجمهورية في القمة العربية، دور الجزائر كفاعل مناصر للتعاون الاقتصادي، مستندا إلى ما تمتلكه البلاد من موارد طبيعية كالطاقة، إضافة للموقع الجغرافي والأفق الاستراتيجي في الانفتاح على إفريقيا وأوروبا.
الخطاب -يقول هادف- يذهب إلى أن الجزائر مستعدة للمساهمة في المشاريع الاقتصادية الإقليمية الكبرى إذا توفرت الإرادة المشتركة، ويقر بوجود «ثورات راهنة» في مجالات حيوية كالطاقات المتجددة، في ظل التحول الطاقوي العالمي، الرقمنة، الذكاء الاصطناعي، الروبوتية والنانوتكنولوجيا.. وهي تمثل محاور الثورة الصناعية الرابعة. اعتبر هادف في تصريح لـ «الشعب»، أن هذه القطاعات ليست محركات للنمو فقط، بل أصبحت معايير لقياس قدرة الدول على البقاء في المنافسة العالمية.
ويعتقد أن تجاهل هذه القطاعات يعمق الهوة بين الدول العربية وباقي العالم، وقد يبقي الاقتصاد العربي رهينة للاستهلاك بدل الابتكار والإنتاج. ولفت إلى أن الخطاب تضمن نقدا ضمنيا لحالة التراجع أو اللامبالاة في التعاون العربي.
كما نبه الرئيس، من خلال الخطاب، إلى خطر «التهميش» إذا استمرت السياسات العربية في تجاهل الاندماج الاقتصادي والتكنولوجي. وهذا يعتبر، بحسب هادف، انتقادا ضمنيا للضعف المؤسسي والهيكلي في مشاريع الاندماج الاقتصادي العربي، الذي ظل لسنوات أسيرا للتجاذبات السياسية والبيروقراطية، ويؤكد في ذات الوقت على موقع الجزائر كمحرك للتكامل والتنمية.
بحسب المتحدث، فإن رئيس الجمهورية لم يكتف بالتشخيص، بل رسم ملامح رؤية مستقبلية يمكن أن تكون نقطة انطلاق حقيقية نحو نهضة اقتصادية عربية جديدة، إذا ما تم تجسيدها ضمن إطار عمل جماعي فعال وواقعي.
كلمة الرئيس تمثل إعلانا سياسيا- اقتصاديا قويا للنوايا، وتعكس إدراكا جزائريا متقدما أن مصير الدول العربية سيكون محسوما في العقود القادمة بناء على قدرتها على الاستثمار في المعرفة والتكنولوجيا، التحرر من الاقتصاد الريعي وبناء شراكات عربية قوية ومشتركة بدلًا من المنافسات المتفرقة.
وأشار هادف إلى أن الجزائر، بما تمتلك من قدرات، تمثل قاطرة محتملة للتكامل العربي إذا ما تحركت باقي الدول بنفس المنطق العقلاني والتاريخي نحو المستقبل.
انطلاقا من هذا الخطاب، ومن التوجهات الاقتصادية الجزائرية في السنوات الأخيرة، حدد هادف أولويات التعاون الاقتصادي العربي من منظور جزائري يرتكز على الانتقال الطاقوي المشترك، الاستثمار المشترك في الطاقات المتجددة (الطاقة الشمسية، الهيدروجين الأخضر)، إطلاق مشاريع عربية مشتركة للاستفادة من موقع الدول العربية في الحزام الشمسي العالمي، تشجيع نقل التكنولوجيا من الدول المتقدمة إلى العالم، بناء سوق عربية رقمية موحدة، مع تطوير بنية تحتية رقمية مترابطة (كابلات، منصات سحابية، مراكز بيانات...)، وكذا دعم الابتكار في الذكاء الاصطناعي لأغراض التنمية: الزراعة الذكية، التعليم، الصحة...
ولفت المتحدث، إلى أن التكامل الصناعي وسلاسل القيمة الإقليمية، وذلك من خلال تحديد الصناعات التي يمكن توزيع مراحل إنتاجها بين الدول العربية، استغلال التفاوت في التكاليف والمهارات والموارد الطبيعية لتأسيس شبكات إنتاج عربية مرتبطة عالميا.
كما يطرح تعزيز الأمن الغذائي والمائي رهانا كبيرا بالنسبة للدول العربية، من خلال إقامة مشاريع زراعية مشتركة في الدول ذات القدرات الزراعية الكبرى (كالجزائر والسودان والعراق)، إضافة إلى تطوير أنظمة لوجستية وغذائية عربية متكاملة لتقليص الاعتماد على الأسواق الخارجية، تفعيل دور المؤسسات المالية العربية (كالصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي)، وكذا إنشاء آلية عربية لتمويل المشاريع المستقبلية المرتبطة بالتحول الرقمي والطاقة.
أضاف الخبير هادف، أنه في هذا العالم، الذي يتسارع فيه التحول التكنولوجي وتتغير فيه موازين القوى الاقتصادية، نجد الدول العربية تمتلك ما يكفي من الطاقات البشرية والمقدرات الطبيعية والمواقع الجغرافية لتصبح فاعلا اقتصاديا عالميا مرموقا. ولكي تحقق ذلك، فإن عليها التحرك من منطق رد الفعل إلى الفعل، ومن التمني إلى التخطيط، مبرزا أن الجزائر باستطاعتها من موقعها الاستراتيجي، أن تلعب دور المحفز والمبادر لتشكيل تحالفات عربية للتنمية المستقبلية.
ترتكز هذه التحالفات، كما أوضح هادف، على شراكات في الهيدروجين الأخضر والطاقات المتجددة، كما يمكن إنشاء مراكز عربية للابتكار الرقمي والذكاء الاصطناعي، وإقامة مشاريع استثمار مشترك موجهة للتصنيع الذكي والغذاء المستدام وبنظرة استشرافية.
يرى هادف، أنه إذا تم البناء على هذه المبادرات، يمكن خلال العقد المقبل أن يظهر قطب اقتصادي عربي جديد يربط إفريقيا، آسيا وأوروبا، وبإمكان هذه التحالفات مضاعفة مساهمة الاقتصاد الرقمي في الناتج المحلي العربي. وقال إنه في حال تحقق ما يستشرفه، فإن ذلك سينقل بعض الدول العربية من موقع المستهلك للتكنولوجيا إلى المساهم في إنتاجها وتطويرها.
وأكد هادف، أن ما سبق ذكره ليست مجرد آمال، بل فرص حقيقية في متناول اليد، يمكن اغتنامها، خاصة في هذه اللحظة التاريخية التي تعيشها الدول العربية بروح جماعية.