تفعيل دور الاتحاد الإفريقي كشريك أساسي في جهود السلم والأمن
الرصيد الجزائري.. قوة دافعة نحو بناء نظام دولي أكثر عدلاً وتوازناُ
تشكّل عضوية الجزائر في مجلس الأمن فرصة لتسليط الضوء على مقدرة الجزائر على صياغة مقاربات مؤثرة داخل أروقة أبرز مؤسسات صنع القرار في العالم، ويرى متابعون أن الدبلوماسية الجزائرية قد دخلت مرحلةً جديدة من التفاعل الفعّال مع القضايا الدولية، متسلّحةً برؤية سياسية واضحة المعالم وضعتها ضمن أجندة عملها داخل مجلس الأمن، جازمين أن الجزائر قد وضعت إفريقيا في قلب هذه الأجندة، مشكّلةً بذلك طوق نجاة لقضايا القارة وشعوبها..
هذا ما ذهب إليه الخبير الأمني والاستراتيجي، الدكتور أحمد ميزاب الذي أشار إلى أن دفاع الجزائر عن قضايا القارة في مجلس الأمن، لم يكن انطلاقاً من اعتبارات رمزية أو دبلوماسية سطحية، بل من قناعة عميقة بأن معالجة أزمات القارة يجب أن تنبع من داخلها، عبر حلول إفريقية خالصة تعبّر عن خصوصية السياقات المحلية وتعقيداتها وتُدار بأيادي أبنائها.
وتابع المتحدّث قائلاً إن الجزائر قد عملت منذ بداية عضويتها في مجلس الأمن على تكريس مبدأ “الحلول الإفريقية للنزاعات الإفريقية”، من منطلق أن الأمن والاستقرار في القارة لا يمكن أن يكونا رهينة قرارات تُفرض من خارجها أو تُصاغ بمنأى عن واقعها الحقيقي –على حد تعبيره-.
وقال ميزاب لـ “الشعب”: “لقد دافعت الجزائر بقوة نحو تفعيل دور الاتحاد الإفريقي كشريك أساسي في جهود السلم والأمن، مطالبةً بإشراكه الفعلي في رسم وتنفيذ القرارات الأممية المرتبطة بالمنطقة”، وهو المسعى الذي اعتبره المتحدّث منسجماً تماماً مع جهود الجزائر الحثيثة لإعادة تسليط الضوء على ملفات مزمنة تم التغاضي عنها ردحاً من الزمن، مثل أزمات الساحل الإفريقي والقرن الإفريقي ومحاولة وضعها بقوة على طاولة مجلس الأمن، ليس فقط من خلال التشخيص السياسي، بل دافعت عنها بمقاربة شاملة تعتبر أن النزاعات الداخلية أمرٌ لصيق بالسياقات الاجتماعية والاقتصادية، وأن معالجة الفقر، التهميش وضعف التنمية تمثّل مفاتيح جوهرية لتحقيق الاستقرار، وهي مقاربة عزّزت صورة الجزائر كدولة تتحدّث بصوت القارة، وكرّس موقعها كطرف موثوق لدى الشركاء الأفارقة.
ولَفَتَ الخبير الأمني والاستراتيجي إلى أن الجزائر لم تكتفِ بترديد الشعارات الداعية إلى إصلاح المنظومة الأممية، بل طرحت رؤية دقيقة ومحدّدة لكيفية تصحيح الخلل القائم في تركيبة المجلس، وانطلقت في ذلك ـ بحسبه ـ من مبدأ أن إصلاح مجلس الأمن لم يعد مسألة اختيار، بل بات ضرورةً تفرضها التحوّلات الجيوسياسية وواقع التمثيل غير العادل داخل الهيئة الأممية.
إفريقيــا.. مــن التمثيـل إلى التأثـير
واستطرد ميزاب قائلاً إن الجزائر قد طالبت في وقت سابق بتطبيق “إجماع إيزولويني”، وهو الموقف الإفريقي الموحّد الذي يُطالب بمنح القارة مقعدين دائمين بمجلس الأمن مع كامل الصلاحيات، بما فيها حق النقض، كما دعت إلى زيادة عدد المقاعد غير الدائمة المخصّصة للدول الإفريقية بما يضمن تمثيلاً أكثر عدلاً لتنوّعها الجغرافي والديمغرافي.
وواصل القول إن الجزائر أكّدت خلال عضويتها غير الدائمة بمجلس الأمن على أن غياب إفريقيا عن دائرة القرار الفعلي في المجلس لا يُمكن فصله عن الإرث الاستعماري الذي لا يزال يُلقي بظلاله على العلاقات الدولية - بحسب تعبيره - مشيراً إلى أن الجزائر ترى في هذا الغياب استمراراً لتمييز تاريخي يجب تصحيحه، ليس فقط لصالح إفريقيا، بل من أجل مصداقية النظام الدولي نفسه.
وتطرّق الدكتور ميزاب الى طبيعة الخطاب السياسي الجزائري في مجلس الأمن، وهو الخطاب الذي لم يكن عاطفياً أو أخلاقياً فقط، بل جاء مرتكزاً على منطق سياسي مُحكم، مبنياً على حُجج قانونية دامغة تجاوز مرحلة تقديم المواقف لينتقل إلى محلة بناء الجزائر لتحالفات دولية واسعة تدفع باتجاه هذا الإصلاح كأولوية عالمية، وهو ذات الخطاب الذي وجد تأييداً ومساندة في أوساط دول الجنوب، لا سيما داخل مجموعة 77 + الصين التي تشترك مع إفريقيا في المطالبة بنظام دولي أكثر توازناً وإنصافاً.
وذكّر في هذا الشأن أن الجزائر في كل مداخلاتها، شدّدت على أن هذا الظلم ليس مجرّد صفحة من الماضي، بل هو واقع متجدّد ينعكس في القرارات المجحفة، في ازدواجية المعايير، وفي صمت المجتمع الدولي عن مآسي الشعوب الإفريقية، مجدّداً التأكيد على أن الجزائر تبنّت خطاباً صريحاً حالياً من المجاملة، مضمونه أن الحديث عن نظام دولي عادل وشامل يظّل فارغاً من معانيه ومقاصده طالما أن إفريقيا غائبة عن مراكز اتخاذ القرار، كما أن الجزائر طالبت بأن تتحوّل القارة الى وضعها كمتلقٍ سلبي للقرارات والإملاءات الى شريك فاعل في اتخاذ هذه القرارات، لها صوت ودور وحق في رسم الخطوط العريضة للسياسة العالمية.
وأضاف قائلاً إن الجزائر لم تكتفِ بتشخيص الخلل الحاصل، بل قدّمت تصوّراً عملياً لتجاوزه، يستند هذا التصوّر على الحق التاريخي والمشروعية السياسية والمنطق الاخلاقي، بل وجعلت من هذا التصوّر قاعدة لتحرّكها بقوة داخل مجلس الأمن وخارجه، ساعيةً بذلك الى الحصول على دعم دولي واسع يُعيد التوازن الى بنية العلاقات الدولية.
من المرافعــة إلــى الضغــط..
وتحدّث الخبير الأمني والاستراتيجي الدكتور أحمد ميزاب بإسهاب عن المعارك الدبلوماسية التي خاضتها الجزائر في أروقة مجلس الأمن طيلة عامٍ ونصف، مبرزاً أهم محطات هذا النزال الدبلوماسي الذي أفضى إلى إسماع صوت القارة المُغيّب طيلة عقود، ولعبها لدور هام في ملفات حسّاسة، أبرزها القضية الفلسطينية، الأزمة الليبية، وأوضاع الساحل الإفريقي، وهي تحرّكات لم تكُن ظرفية – على حسب تعبيره - بل جاءت ضمن رؤية دبلوماسية منسجمة، مزجت بين الموقف السياسي الثابت والتحرّك البراغماتي داخل دوائر القرار.
وأكد ميزاب - في السياق - على أن ما تحقّق حتى الآن، رغم أهميته، يبقى بحاجة إلى تدعيم نوعي خلال الأشهر المقبلة، ويتطلب ذلك – يواصل محدثنا - مواصلة تعزيز تمثيل إفريقيا داخل مجلس الأمن، لتحريك دعم دولي واسع لمقترح “إجماع إيزولويني” بما يجعله ورقة تفاوض، واختتم قائلاً إن الجزائر التي تمتلك رصيدا تاريخيا وافرا ومشرّفا في دعم قضايا التحرّر ومناهضة الاستعمار، تمتلك اليوم فرصة نادرة لتحويل هذا الإرث إلى قوة دافعة نحو بناء نظام دولي أكثر عدلاً وتوازنا، وإعادة بناء شرعية النظام الدولي على أسس جديدة من التوازن والإنصاف.