ترسخ بمجلـس الأمن عقيدة دبلوماسية مستخلصة من رصيدها التحرري..

جزائر الأحرار.. منطق الحق أعلى من منطق القوة

علي مجالدي

الرئيــس تبـون أعاد للسياسـة الخارجيــة بُعـدها الاستراتيجـي المتكامــل

ديناميـة عاليـة في الدفـاع عـن المبـادئ والقيــم والمثـل الإنسانيــة

 استعــادة دور تاريخـي في سيـاق تحـولات جيـو-سياسيـة متسارعــة

 من التمثيـــل إلى التأثير.. ومـــن المشاركـة إلى المبــادرة بكـل ثقـــة وموثوقيــة

 إدمـاج البعـــد الأمنـي الإفريقـي ضمـن مقاربـة شاملة لمكافحة الإرهــاب

حين عادت الجزائر إلى مجلس الأمن الدولي في جانفي 2024 كعضو غير دائم، لم يكن ذلك مجرد مكسب دبلوماسي عابر، بل لحظة استعادة دور تاريخي طالما وسمت به الجزائر حضورها في المنابر الأممية، للدفاع عن القضايا العادلة والوقوف مع الشعوب المستضعفة، وحمل صوت الجنوب في وجه موازين قوى تميل بفجاجة نحو منطق القوة، بدل منطق الحق والعدالة. ولم تكن هذه العودة خارج سياق التحولات الجيو-سياسية المتسارعة التي يعيشها العالم، بل جاءت في توقيت بالغ الحساسية، تزامن مع حرب الإبادة التي تتعرض لها غزة منذ أكتوبر 2023، وانكشاف فشل النظام الدولي في حماية المدنيين الفلسطينيين. وهنا، وجدت الجزائر نفسها في موقع تاريخي ولحظة فارقة، بين ذاكرة نضالية راسخة، وحاضر دولي مرتبك يبحث عن ضمير.

ومنذ الأشهر الأولى، بدا واضحًا أن الجزائر، بقيادة رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، لن تكتفي بالجلوس على المقعد، بل تسعى إلى إعادة صياغة وظيفة العضوية نفسها، من التمثيل إلى التأثير، ومن المشاركة إلى المبادرة. ولم يكن مفاجئًا أن تكون القضية الفلسطينية هي الاختبار الأول والأكثر وضوحًا. فبينما كانت العديد من الدول تتأرجح في مواقفها أو تختبئ خلف عبارات فضفاضة وتعبر عن “القلق العميق”، كانت الجزائر تضع أوراقها على الطاولة بكل صراحة: لا حل خارج إطار الوقف الفوري للعدوان، ولا شرعية لاحتلال قائم على القتل الجماعي، ولا مصداقية لنظام دولي يعجز عن إنقاذ الأطفال من تحت الركام.
كما أن مشاريع القرارات التي دفعت بها الجزائر في مجلس الأمن منذ فيفري وحتى جوان 2025، لم تكن مجرد نصوص دبلوماسية، بل كانت بمثابة اختبارات لموقف العالم من العدالة، من دعواتها المتكررة لوقف إطلاق النار، إلى فضحها لانتهاكات الكيان الصهيوني في غزة، مرّت الجزائر بمرحلة تراكم سياسي واقعي، أعادها إلى صدارة المشهد العربي والدولي كدولة ذات مبدأ، دون أن تفقد توازنها الخطابي. وهذا الموقف، وإن لم يُتوّج دومًا بمصادقة المجلس نتيجة الفيتو الأمريكي، إلا أنه كشف هشاشة النظام الدولي وفعالية صوت المقاومة الدبلوماسية، التي كانت الجزائر أبرز حامليها.
ولم تحصر الجزائر دورها في الدفاع عن فلسطين، بل بسطت ظلها السياسي على كامل القارة الإفريقية، فكما كانت أيام مؤتمر باندونغ صوت العالم الثالث، عادت لتكون صوت إفريقيا داخل مجلس الأمن، ليس بالصوت وحده، بل بالموقف والرؤية. ففي كل اجتماع، تذكّر الجزائر العالم بأن قارة بكاملها ما تزال محرومة من التمثيل الدائم في المجلس، بالرغم من أنها الأكثر تضررًا من الحروب والنزاعات العابرة للحدود. عبر تبنيها لرؤية واضحة وإصرارها على إدراج ملف الإصلاح في صلب النقاش الأممي، فقد حملت الجزائر مشعل العدالة المؤسسية لقارة تُسحق يوميًا تحت عبء القرارات التي لا تشارك في صنعها.وبقيادة الرئيس تبون، تم إدماج البعد الأمني الإفريقي ضمن مقاربة شاملة لمكافحة الإرهاب. فبدلًا من الخطابات المتكرّرة التي تنظر لظاهرة الإرهاب وفق نظرة ضيقة، جاءت الجزائر بخبرة ميدانية، تقترح تفعيل آليات الوقاية، وتطوير قدرات الردع الذاتي، وتعزيز التعاون الاستخباراتي بين الدول الإفريقية، بعيدًا عن التدخلات العسكرية الأجنبية التي ثبت أنها تُعمّق الأزمات بدل حلها. وفي هذا السياق، لم تكتف الجزائر بالكلام، بل استثمرت في دعم قدرات بعض الدول الإفريقية فنيًا، وشاركت في صياغة مواقف موحّدة داخل الاتحاد الإفريقي بما يتماشى مع منطق السيادة.
وفي مسار موازٍ، واصلت الجزائر توظيف عضويتها لدعم الدول العربية في قضايا أخرى، أبرزها دعم ليبيا في معركتها لاستعادة أصولها المالية المجمدة. وهذا الملف الذي ظل طيّ الكتمان والتعقيد لسنوات، استطاعت الجزائر، عبر اتصالاتها ووزنها في المنتديات الدولية، أن تفتح فيه ثغرة أمل، ساعدت من خلالها طرابلس على استرجاع جزء من أموالها المحتجزة، في خطوة فُهمت دوليًا على أنها دليل آخر على فاعلية الدبلوماسية الجزائرية حين تكون مستندة إلى شرعية تاريخية لا تُشترى. كما كانت هذه العضوية أيضًا، وستظل، فرصة لتأكيد رفض الجزائر لكل أشكال التدخل الأجنبي، خاصة حين يتخذ طابعًا عسكريًا يُعيد إنتاج منطق الهيمنة. ففي جلسات عديدة، شدّدت الجزائر على ضرورة احترام سيادة الدول، وعدم فرض الحلول من الخارج، وهي مواقف لم تُولد من فراغ، بل تستمدّ مشروعيتها من تجربة وطنية معقدة، دفعت الجزائر خلالها ثمنًا باهظًا لمواقفها المستقلة، وخرجت منها أكثر صلابة في الدفاع عن مبدأ “الشرعية الدولية لا تُجزأ”.واللافت أن هذه السياسة لم تأتِ بصوت وزير أو بعثة دبلوماسية فحسب، بل انطلقت من أعلى سلطة قرار.. رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون الذي أعاد للسياسة الخارجية الجزائرية بُعدها الاستراتيجي المتكامل، من خلال توجيه واضح يقضي بأن العضوية في مجلس الأمن ليست شرفًا دبلوماسيًا، بل مسؤولية حضارية. وعلى ضوء ذلك، لم تعد الجزائر تكتفي بمخاطبة المجلس، بل تخاطب من خلاله الضمير الدولي، مستحضرة سجلًا نضاليًا يرفض المساومة، ويرى أن الصوت الذي لا يُستخدم لصالح المظلومين هو مجرد صدى بلا قيمة.
وتواصل الجزائر عهدتها بالدفاع عن القضايا العادلة، إذ أنها اليوم أمام فرصة لترسيخ إرث دبلوماسي استثنائي، يكون امتدادًا لرصيدها التحرري، وترجمة لرؤيتها في نظام عالمي أكثر توازنًا وعدلًا. كما أن ما بدأته في غزة، وما دافعت عنه في إفريقيا، وما ساندته في ليبيا، وما وقفت ضده من تدخلات، يجب أن يتحوّل إلى سردية سياسية متكاملة، تتجاوز اللحظة وتؤسس لموقع دائم للجزائر في وجدان السياسة الدولية.والجزائر عندما عادت إلى مجلس الأمن لم لتكون رقمًا عابرًا، بل لتذكر العالم بأن بعض الدول، وإن بدت بعيدة عن دوائر الهيمنة، إلا أنها قادرة على أن تكون ضميرًا حيًا في زمنٍ صامت. ومع الرئيس تبون بدا أن هذا الضمير لا يكتفي بالتأثر، بل يفرض نفسه بصوت وطني قادم من الجنوب، لكنه يخاطب ضمير الإنسانية كلها.

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19795

العدد 19795

الخميس 12 جوان 2025
العدد 19794

العدد 19794

الأربعاء 11 جوان 2025
العدد 19793

العدد 19793

الثلاثاء 10 جوان 2025
العدد 19792

العدد 19792

الإثنين 09 جوان 2025