خــزّان مـن الكفــاءات والخـبرات لدعــم التّنميـة والانتقــال الاقتصادي
يعرف موسم الاصطياف 2025 عودة متجدّدة للحديث عن الجالية الوطنية بالخارج، ليس من زاوية المناسبات أو الحنين العاطفي للوطن، بل من موقعها الحقيقي كفاعل استراتيجي في معادلة الدولة الجزائرية الحديثة، اقتصادًا وسياسة وهويّة.
في هذا السياق، جاءت توجيهات رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون الأخيرة، الصّادرة خلال اجتماع مجلس الوزراء الأخير، لتكرّس تصوّرًا أكثر وضوحًا للعلاقة بين الدولة وأبنائها في الخارج، حيث شدّد رئيس الجمهورية على ضرورة “اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لضمان تكفّل أفضل بالجالية الوطنية عبر المطارات والموانئ”، وهو توجيه لا يُقرأ فقط باعتباره تعليمات إدارية ظرفية، بل يعكس إرادة سياسية في ترسيخ ثقافة مؤسساتية للاهتمام بالمغترب الجزائري بوصفه امتدادًا حيًّا للدولة خارج حدودها.
ولا يمكن عزل الخطاب الرّسمي عن سياق أوسع تشهده الجزائر في السّنوات الأخيرة، حيث باتت الجالية الوطنية تحظى بموضع متقدّم في هندسة السياسات العمومية، مدفوعة بوعي مركّب بأهميتها المتعددة الأبعاد. فمن جهة أولى، تشكّل الجالية رافدًا اقتصاديًا معتبرًا، إذ تشير التقديرات إلى أن التحويلات المالية السنوية للجالية تلامس 3 مليار دولار، فيما يقارب عدد الوافدين خلال فصل الصيف وحده المليون ونصف، ما يجعل من استيعاب هذه الديناميكية ضرورة وليس ترفًا إداريًا.
ومن جهة ثانية، تنظر الجزائر إلى الجالية بوصفها وسيلة ناعمة لترسيخ الحضور الدبلوماسي الجزائري في المحيط الأوروبي خاصة، خصوصًا في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية، وتنامي النزعات المعادية للمهاجرين. وفي هذا السياق، يصبح حسن التكفّل بالجالية قضية سيادة ثقافية، ووسيلة لتحصين الانتماء في ظل صراعات الهويات العابرة للحدود.وفي هذا الإطار، لا تُفهم التسهيلات التي أُقرّت لموسم الاصطياف – من تخصيص مسارات مبسطة في المطارات، إلى تعزيز قدرات الأسطول البحري والجوي، ومرورًا بإعادة تنشيط الأداء القنصلي في أوروبا – كإجراءات موسمية، بل هي مؤشّرات على محاولة الجزائر ترسيخ الثقة، التي لطالما عبّرت عنها فئات واسعة من الجالية، خاصة أمام البيروقراطية القنصلية، أو ضعف التواصل المؤسساتي خلال فترات الأزمات.كذلك، فإنّ ما يُلاحظ في خريطة المساعي الحكومية هو السير نحو تحديث المنظومة القنصلية خارج الوطن، كما عبّر عن ذلك الاجتماع الذي ترأّسه كاتب الدولة المكلف بالجالية مع القناصلة في أوروبا وأمريكا، بهدف توحيد الرؤية وتعزيز أدوات الرقمنة وتحسين جودة الخدمة الإدارية، وهذا التوجه يحمل في طيّاته إدراكًا بأنّ بناء الثقة لا يتحقق إلا بتقليص المسافة بين المواطن والإدارة، سواء كان ذلك في الجزائر أم في باريس أو مونتريال.
ولا يكتمل الحديث عن الجالية دون التطرق إلى الحاجة لبناء علاقة نفعية متبادلة بين الدولة وأبنائها في الخارج. فالتكفّل بالجالية لا ينبغي أن يُختزل في تسهيلات عبور أو امتيازات موسمية، بل يجب أن يُرفق بمنظور استراتيجي يربط بين الجالية ومشاريع التنمية الوطنية. وهو ما تعمل عليه الدولة من خلال فتح قنوات الاستثمار، وتبسيط الإجراءات لبعث صناديق تمويل تشاركية، أو مبادرات دعم الأسر المنتجة من أبناء الجالية، باعتبارهم خزّانًا من الكفاءات والخبرات والمداخيل.
وفي سياق متصل، فإنّ إدماج الجالية في المشروع الوطني يتطلّب - حسب الخبراء - أكثر من حسن الاستقبال، وهو ما يعمل عليه رئيس الجمهورية، من خلال إشراكها الرمزي والمؤسساتي، بما في ذلك الحق في التصويت، والمشاركة في صياغة بعض السياسات، بل وربما التفكير في خلق “مجلس أعلى للجالية” يكون فضاءً دائمًا للتشاور.
وفي المحصلة، فإنّ تحرّكات الدولة، بما تحمله من بعد تقني وتنظيمي، تعكس اليوم إدراكًا متزايدًا بأن الجالية ليست عبئًا إداريًا، ولا قضية ظرفية تطرح عند كل عطلة صيفية، بل هي جزء من الجغرافيا الحيوية للجزائر، وبأنّ توطيد العلاقة معها هو جزء من معركة بناء الدولة الوطنية في الداخل والخارج. وهذه المعركة لا تُخاض بالشّعارات، بل بإرادة مؤسساتية دؤوبة، قوامها حسن التكفّل، وجودة الخدمة، واعتراف ضمني بأنّ أبناء الجزائر في الخارج ليسوا زوارًا موسميين، بل مواطنين حقيقيين بامتدادات عالمية، ورئيس الجمهورية لطالما أكّد على هذا النهج العملي.