منصوري: خطاب الجزائر أسّس لمنظور بديل للأمن في الشرق الأوسط
زغدوي: الجزائر ملتزمـة بمبـادئ إنسانية وثـوابت تاريخيـــة
في زمن تآكلت الشرعية الدولية، وتحول منطق القوة إلى بوصلة تضبط من خلالها موازين الردع والتحالف، بقيت قلة من الدول تحرص على صيانة ثوابت مبدئية لا تُساوم، متمسكة بخطاب سياسي عقلاني لا ينخرط في ضجيج المناسبات. والجزائر، في اجتماع وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي بإسطنبول، لم تكتف بمجرد الحضور، بل عززت موقعها كفاعل دبلوماسي يملك رؤية متماسكة، ويتقن توظيف أدوات السياسة الخارجية للدفاع عن قضايا الأمة، دون انخراط في خطابات موسمية أو حسابات ظرفية.
لم تكن الكلمة التي ألقاها وزير الخارجية أحمد عطاف خروجًا عن هذا الخط، بل كانت تجسيدًا ملموسًا لنهج وضع أسسه رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، وهو نهج يؤمن بأن الأمن الإقليمي لا يمكن أن يُبنى على الاستثناء، وأن المساءلة يجب أن تشمل الجميع، بما في ذلك الكيان الصهيوني الذي حوّله الصمت الدولي إلى طرفٍ خارج عن كل أشكال المحاسبة.
ولم يكن اجتماع إسطنبول حدثًا دبلوماسيًا عابرًا، بل جاء في لحظة سياسية شديدة التعقيد تشهد فيها المنطقة تصعيدًا متواصلًا لآلة العدوان الصهيوني، من غزّة التي تحوّلت إلى مرآة يومية للمجزرة والإبادة الجماعية، إلى دمشق وبيروت وصنعاء وطهران التي طالتها النيران الصهيونية دون رادع.
وهذا الاجتماع، وإن حفل بإدانات معتادة، شكّل اختبارًا حقيقيًا لمدى جدية المواقف الإسلامية في مواجهة واقع يتآكل فيه القانون الدولي. ووسط هذا المشهد، لم تكتف الجزائر بمجاراة لغة البيانات، بل تقدمت برؤية نقدية جريئة تُعيد طرح الأسئلة المؤجلة: ما معنى الأمن الإقليمي إذا بقيت دولة الاحتلال فوق المحاسبة؟ وما جدوى الشرعية الدولية إذا كانت تُعطّل حين يتعلّق الأمر بضحايا عرب ومسلمين؟
في هذا الإطار، يعتبر أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، الدكتور منصوري عبد القادر في تصريح لـ»الشعب»، أن الجزائر تُعيد ضبط بوصلة الخطاب الإسلامي المشترك، بعدما انزلقت بعض الدول إلى منطق التوازن بين الجلاد والضحية، ويضيف أن «ما قاله وزير الخارجية يعد كبيان موقف يؤسس لمنظور بديل للأمن في الشرق الأوسط، يستند إلى قاعدة: لا أمن بلا عدالة، ولا استقرار مع استمرار الاحتلال».
ويشدد الدكتور منصوري على أن الجزائر قدمت قراءة استراتيجية شاملة، حيث ربطت مسألة استقرار الإقليم بضرورة إنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية، ورفض منطق الهيمنة الذي يجعل من بعض الدول أدوات لتنفيذ أجندات خارجية.
من جهته، يرى المتخصص في الدراسات الأمنية الدكتور زغدوي محمد، في تصريح لـ»الشعب»، أن «التميّز الجزائري في هذه الدورة لم يكن في اللهجة، بل في البنية المتماسكة للطرح السياسي، الذي ربط بين تدهور الوضع في غزّة، وتمدد العدوان إلى دول الجوار، والانكشاف الكامل لمنظومة الردع الأممية». ويؤكد أن «الجزائر، بخبرتها التاريخية ومكانتها الراهنة في مجلس الأمن، تتحرك ضمن رؤية تتجاوز مجرد الدعم السياسي، وتسعى لفرض مراجعة حقيقية لمنظومة التعامل الدولي مع الاحتلال، وليس فقط المطالبة بوقف إطلاق النار».
علاوة على ذلك، أشاد البيان الختامي لاجتماع إسطنبول بالجزائر لما تبذله من جهود داخل مجلس الأمن للدفاع عن القضايا الإسلامية. وفي هذا الإطار، يؤكد الدكتور زغدودي أن ما تقوم به الجزائر لا تكفي الإشادة لتوصيفه. فالحضور الجزائري لم يكن شكليا، بل وُظّف من أجل تحريك الملفات العالقة، وتثبيت مبادئ طالما أكدت عليها الجزائر منذ مؤتمر باندونغ من دعم حق الشعوب في تقرير مصيرها، ورفض كل أشكال التدخل الخارجي، والتمسك بالشرعية الدولية لا بالشرعية المفروضة.
ويرى العديد من المتابعين أن ما يجعل الموقف الجزائري متمايزًا في مثل هذه المنابر ليس فقط وضوح لغته أو نبرة خطابه، بل انسجامه مع تاريخ نضالي طويل يجعل من أي تنازل عن الثوابت سقوطًا أخلاقيًا قبل أن يكون تراجعًا سياسيًا. والجزائر، اليوم، لا تتحدث عن فلسطين من منطلق تضامن عاطفي فقط، بل من موقع دولة تدرك أن الأمن الإقليمي، بل والدولي، لا يمكن أن يستتب في ظل ازدواجية صارخة في تطبيق القانون.
وفي الوقت الذي يغيب فيه الفعل ويُستبدل بالبيانات، تواصل الجزائر تفعيل دبلوماسيتها في دوائر القرار الأممي، دون الاكتفاء ببيانات الشجب. وهذه الديناميكية، التي تعززت بتقدير الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، تعكس إدراكًا عميقًا لمقتضيات اللحظة، وتأكيدًا على أن الخطاب وحده لا يكفي، ما لم يترجم إلى ضغوط ممنهجة ومساعٍ عملية تعيد الاعتبار للقضية المركزية التي ما تزال تُستنزف على موائد الصفقات الجيوسياسية.