نموذج متقدم للتنسيق الحدودي في بيئة إقليمية استثنائية

الجزائر – تونــس.. أخوّة دائمة وشراكةٌ إستراتيجية

علي مجالدي

إدراك عميق لحجم التحديات ورؤية استباقية واستشرافية للتحولات الدولية

في زمن تكاثرت فيه التهديدات وامتدت عبر الحدود، تعود الجزائر وتونس لتؤكدا، مرة أخرى، أن الجغرافيا التي تجمعهما ليست صدفة قدرية، بل مسؤولية مشتركة تستوجب تنسيقًا دائمًا وفعّالًا.

الدورة الثانية للجنة الأمنية المشتركة الجزائرية– التونسية، المنعقدة في الجزائر، لم تكن مجرد لقاء بروتوكولي، بل تجسيد عملي لرؤية استراتيجية تنسج من خيوط الثقة والبراغماتية جسور تعاون أمني شامل بين البلدين، يواكب متغيرات البيئة الإقليمية والدولية التي لم تعد تهدد الدول بقوات نظامية فقط، بل بأطراف لا تماثلية تقتات من هشاشة الحدود وتستغل تعقيدات الجغرافيا والسياقات الاجتماعية الهشة.
ويرى العديد من المتابعين، أن انعقاد هذه الدورة في هذا التوقيت بالذات، يعكس إدراكًا عميقًا لحجم التحديات التي تفرزها البيئة الإقليمية، سواء في ليبيا المتقلبة، أو في منطقة الساحل التي تعرف تصاعدًا غير مسبوق في التهديدات الأمنية، من تهريب الأسلحة والبشر إلى تنقل الجماعات المتطرفة. وفي نفس السياق، فإن الهجرة غير الشرعية أصبحت تشكّل مصدر ضغط مزدوج على البلدين، من جهة كبلدي عبور، ومن جهة أخرى كبلدي مقصد مؤقت، خاصة مع تزايد وتيرة هذه الظاهرة خلال السنوات الأخيرة.

تنسيق أمني في مواجهة تهديدات لا تماثلية

ووفقًا لتقارير دولية صادرة عن المنظمة الدولية للهجرة، فإن أعداد المهاجرين غير النظاميين الذين يعبرون من تونس والجزائر نحو الضفة الشمالية للمتوسط قد ارتفعت بنسبة تتجاوز 35% في سنة 2024 مقارنة بالعام الذي قبله، ما يعكس ديناميكية معقدة تتطلب تنسيقًا ميدانيًا ومعلوماتيًا عالي المستوى.
علاوة على ذلك، فإن تجارة المخدرات والمؤثرات العقلية العابرة للحدود أضحت تشكّل تهديدًا مباشرًا للأمن الصحي والاجتماعي، حيث تشير تقارير الأجهزة الأمنية إلى حجز أكثر من 5 أطنان من القنب الهندي خلال النصف الأول من سنة 2025 فقط، معظمها قادمة من الحدود الغربية، ولكن بعض المسالك تمر عبر الجنوب الشرقي المشترك مع تونس.

من التنسيق الأمني إلى التكامل البشري

غير أن ما يميّز اللجنة الأمنية الجزائرية– التونسية ليس فقط طابعها الأمني، بل بعدها الإنساني الذي يُجسد من خلال حرص البلدين على تسهيل عبور الأفراد عبر المعابر البرية، وبحث العراقيل البيروقراطية التي قد تعيق التواصل الشعبي عبر الحدود. وفي سياق متصل، تمثل منطقة الشريط الحدودي بين البلدين موطنًا لعلاقات اجتماعية عميقة، تتعدى الحدود السياسية نحو روابط القرابة والمصاهرة والتبادل التجاري اليومي.
والحديث عن تسهيل مرور الأشخاص ليس تفصيلًا إجرائيًا، بل هو تعبير عن رؤية ثنائية تعتبر أن التعاون الأمني لا يُبنى على الجدران العازلة، بل على جسور الثقة. كذلك، فإن تسهيل العبور هو من صميم بناء منطقة مغاربية متكاملة، خصوصًا أن الجزائر وتونس تقدمان اليوم نموذجًا يُحتذى به في حسن الجوار، في وقت تشهد فيه مناطق أخرى من شمال إفريقيا توترات دائمة وصراعات بنيوية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن إشراك مختلف الأجهزة الأمنية في هذه الدورة، من شرطة الحدود إلى المصالح المختصة بمكافحة الهجرة والمخدرات، يعكس مقاربة شمولية متعددة المستويات، تتجاوز العمل البروتوكولي إلى العمل العملياتي والميداني، ما يعزز من نجاعة الإجراءات ويقلّص من زمن الاستجابة لأي تهديد مستجد.
وفي المحصلة، لم تكن الدورة الثانية للجنة الأمنية المشتركة الجزائرية– التونسية مجرد محطة تشاورية عابرة، بل خطوة إستراتيجية في مسار طويل من التنسيق الحدودي المبني على فهم واقعي للمخاطر ورؤية متوازنة تدمج بين الأمني والبشري، وبين الردع والتقارب. وهذا النموذج، وإن لم يحظَ بالضجيج الإعلامي، إلا أنه يقدم دروسًا عملية في كيفية تحويل الجغرافيا من مصدر تهديد إلى رافعة للاستقرار والتعاون الإقليمي. ولعلّ أهم ما يمكن استخلاصه هو أن التعاون الأمني لا يعني غلق الحدود بل حسن إدارتها، وأن بناء الأمن المشترك لا يكون إلا عبر الثقة المتبادلة، الرؤية الاستراتيجية والقدرة على التأقلم مع التهديدات المستجدة، دون التفريط في الروابط التاريخية بين الشعبين.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19825

العدد 19825

الخميس 17 جويلية 2025
العدد 19824

العدد 19824

الأربعاء 16 جويلية 2025
العدد 19823

العدد 19823

الثلاثاء 15 جويلية 2025
العدد 19822

العدد 19822

الإثنين 14 جويلية 2025