الجزائر المنتصرة كرّمت الصناديد ووجهت رسائل الوحدة وملاحم التماسك

الجيش الوطني الشعبي.. روح الذاكرة وحارس السيادة

علي مجالدي

إقرار “يوم وطني للسليل“.. تأسيس لثقافة سياسية ووجدانية نموذجية

في لحظة تعانق فيها الذاكرة الوطنية جراحها المجيدة، وترتّب على مهل صُور أبنائها الذين صانوا الوطن بأجسادهم قبل سلاحهم، أشرَف رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة، وزير الدفاع الوطني، السيد عبد المجيد تبون، يوم 4 أوت المنصرم، على حفل تكريم متقاعدي الجيش الوطني الشعبي المنحدرين من صفوف جيش التحرير الوطني، وعائلات شهداء الواجب الوطني، وكبار جرحى مكافحة الإرهاب. ولم يكن المشهد مجرد بروتوكول رسمي، بقدر ما كان لحظة وفاء رمزية، تعيد ربط الحاضر بجذوره والوطن بشهدائه.

في سياق متصل، لا يمكن، برأي مراقبين، قراءة هذا الحدث الوطني إلا من خلال العمق التاريخي للمؤسسة العسكرية الجزائرية، التي لم تكن وليدة تنظيم إداري ما بعد الاستقلال، بل هي استمرار عضوي لجيش التحرير الوطني، بما يحمله من إرث ثوري، وسياج رمزي لوحدة الأمة. فقد تأسس الجيش الوطني الشعبي في الرابع أوت 1962، على أنقاض معاناة طويلة وشجاعة استثنائية لمجاهدين خرجوا من الكهوف وجراح الثورة، ليحملوا السلاح مجددًا، ولكن هذه المرة لحماية الدولة ولحراسة المؤسسات والمواطن.
كذلك، فإن تخصيص يوم وطني للجيش الوطني الشعبي، والذي أقره رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة وزير الدفاع الوطني السيد عبد المجيد تبون، عام 2022، لم يكن فقط تثمينًا رمزيا، بل تأسيسًا لثقافة سياسية ووجدانية تعترف بأن بناء الدول لا يستقيم من دون حفظ الذاكرة الحية، ومن دون الاعتراف بمن دفعوا ضريبة الاستقلال مرتين: في الجبال ذات يوم، وفي مدن ملتهبة بنار الإرهاب في العقود الماضية.
علاوة على ذلك، فإن تكريم عائلات الشهداء ومعطوبي الإرهاب لا يندرج ضمن تصفية رمزية لماضٍ قريب، بل هو ترسيخ لتقليد سياسي يُعيد ترتيب سلم الأولويات الوطنية، ويُعلن -ولو بشكل غير مباشر- أن التضحية في سبيل الدولة الجزائرية لم تكن يومًا عملاً هامشيًا، بل هي العمود الفقري الذي ساند البلاد في أشد اللحظات قسوة وتفككًا. فالذين تصدوا للإرهاب، لم يُقاتلوا أشباحًا، بل مشروعًا منظّمًا لتفكيك الدولة وتمزيق نسيجها الاجتماعي مسخ هويتها.
في السياق نفسه، جاءت كلمة الوزير المنتدب لدى وزير الدفاع الوطني، رئيس أركان الجيش، الفريق أول السعيد شنقريحة، لتُجدد العهد على أن المؤسسة العسكرية لاتزال على درب الوفاء، وأن الجيش سيبقى، كما وصفه، «الخادم الوفي للوطن». وهو وصف دقيق في دلالته، لأنه يعكس جوهر العلاقة التي تربط الجيش بالشعب في المخيال الوطني: علاقة خدمة لا وصاية، علاقة حماية لا ابتزاز. وهو ما بدا جليًّا في كل المحطات المفصلية التي عرفتها البلاد، حيث وقف الجيش إلى جانب المؤسسات، لا بديلاً عنها، وإلى جانب الشعب، لا في مواجهته.
بالإضافة إلى كل ذلك، تبرز التحديات الجغرافية والأمنية التي يتصدى لها الجيش الوطني الشعبي يوميًا، في صمتٍ لا تُدركه عدسات الكاميرات، ولكن تُسجله الجغرافيا. فبمساحة تفوق مليونين وثلاثمائة ألف كيلومتر مربع، وحدود تمتد لأكثر من ستة آلاف كيلومتر، يجد الجيش نفسه في تماسٍ مباشر مع محيط إقليمي مضطرب، لاسيما من جهة الساحل. حيث يتقاطع التهديد الإرهابي مع الجريمة المنظمة والهجرة غير النظامية، وتزدهر شبكات التهريب وتجارة السلاح في فراغات الدول الهشة.
في هذا الحزام الجغرافي الملتهب، تشكل الجزائر نقطة التوازن الوحيدة التي لم تنهَر مؤسساتها ولم تُسْتَهدف هويتها، ويُعزى ذلك -بدرجة كبيرة- إلى يقظة المؤسسة العسكرية وقدرتها على التكيف مع مختلف التحديات. بل يمكن القول إن الجيش الوطني الشعبي، في صيغته الحالية، يمثل استثناءً أفريقيًا وعربيًا في قدرته على الصمود دون الانزلاق نحو العسكرة، أو التفكك، أو التحول إلى أداة لتقويض الدولة من الداخل، كما حصل في تجارب أخرى.
في هذا الإطار، يبدو التكريم الذي أشرف عليه رئيس الجمهورية ليس فقط لفتة إنسانية أو إحياءً للذاكرة، بل تجسيدًا لرؤية سياسية ترى في الجيش ركيزة للوحدة الوطنية، وفاعلًا حاسمًا في صناعة الاستقرار، لا عبئًا سياسيًا كما يسوّق البعض. وهو تكريم لا يكتفي بالماضي، بل يرسم أفقًا لمستقبل تُبنى فيه الدولة على شرعية التضحيات، لا على ضجيج الخطابات.
والجزائر، وهي تُكرم أبناءها البررة، تُعلن -ضمنياً- أن الوفاء لا يسقط بالتقادم، وأن الوحدة الوطنية لا تُفرض بالقوانين فقط، بل تُنسج من دماء من حرسوها، ومن وفاء من يواصلون حمايتها. وفي عالم ينهار فيه اليقين، ويذوب فيه المعنى، لاتزال الجزائر تحاول أن تُراكم ذاكرة موحدة، يتقاطع فيها الثوري والمجاهد، والجندي والمعطوب، في صورة واحدة؛ صورة الوطن الذي لا يُباع ولا يُشترى، ولا يُترك خلفه أحد.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19842

العدد 19842

الأربعاء 06 أوث 2025
العدد 19841

العدد 19841

الثلاثاء 05 أوث 2025
العدد 19840

العدد 19840

الإثنين 04 أوث 2025
العدد 19839

العدد 19839

الأحد 03 أوث 2025