شهادة سياسية جديدة تكشف أبعاد الصراع

بولتون يواصل فضح سياسة الاحتلال المغربي

علي مجالدي

في عالم تتقاطع فيه المصالح وتتصادم المشاريع الاستعمارية القديمة مع أشكال النفوذ الجديد، تأتي تصريحات جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق والممثل الأسبق لدى الأمم المتحدة، لتعيد فتح ملف الصحراء الغربية من زاوية لا تخلو من الصراحة السياسية والوضوح القانوني.

القضية التي مازالت الأمم المتحدة تصنفها كملف تصفية استعمار، تحولت منذ ثلاثة عقود إلى مسرح لسياسة فرض الأمر الواقع، حيث يسعى المغرب المحتل لطمس الهوية الصحراوية تحت غطاء دبلوماسي واقتصادي مدعوم من قوى دولية، بينما يقف الشعب الصحراوي في مواجهة واحدة من أطول معارك التحرر في القارة الإفريقية.
بولتون في حواره مع «الصحراء الغربية راديو الثورة»، يوم 12 أوت، لم يكتفِ بسرد تاريخ «خطة بيكر الثانية» لعام 2003 أو فشل بعثة المينورسو، بل قدّم شهادة سياسية تستحق التوقف عندها، لأنها تكشف بوضوح أن فشل تلك المبادرات لم يكن بسبب التعقيد التقني أو ضعف الإرادة الدولية، بل نتيجة رفض مغربي صريح لأي حل يفتح الباب أمام استفتاء حر يختار فيه الصحراويون بين الاستقلال أو الانضمام للمغرب. وفي هذا الرفض تكمن فلسفة المخزن: إدارة الزمن لصالحه، وتفريغ قرارات الشرعية الدولية من محتواها، مع الرهان على أن الإرهاق السياسي قد يدفع المجتمع الدولي إلى قبول الأمر الواقع.
في نفس السياق، يتضح من تحليل كلام بولتون، أن الإستراتيجية المغربية ليست منعزلة عن حسابات القوى الكبرى، وعلى رأسها فرنسا التي ترى في بقاء المغرب في الصحراء ضمانة لبقاء نفوذها في إفريقيا. بولتون لمّح بوضوح إلى أن خسارة المغرب في هذه المعركة، تعني خسارة النفوذ الفرنسي في القارة، وهو ما يفسر المواقف الرمادية أو الصامتة من بعض العواصم الأوروبية، رغم وضوح قرارات مجلس الأمن ومبدأ تقرير المصير الذي تتغنى به تلك الدول في ملفات أخرى.
علاوة على ذلك، أشار بولتون إلى أن استمرار الوضع الراهن في الصحراء الغربية ليس مسألة محلية، بل هو عقدة جيوسياسية تؤثر على استقرار منطقة الساحل برمتها. فالسياسة التوسعية للمخزن، والتي تمتد إلى مطالبات في أراضٍ في دول أخرى، تمثل عنصر توتر دائم قد يهدد توازنات هشة في منطقة تعاني أصلًا من تحديات أمنية خطيرة. وهنا تكمن أهمية هذه التصريحات في ربطها بين ملف الصحراء وأمن الساحل، لأن ذلك يضع النزاع في قلب الاهتمام الاستراتيجي الدولي، بدل أن يبقى حبيس أروقة الأمم المتحدة.
بالإضافة إلى ذلك، لم يتردد بولتون في فضح البعد الدعائي للنزاع، مشيرًا إلى فشل المغرب في تشويه صورة جبهة البوليساريو أمام المجتمع الدولي. وبرغم ما تملكه الرباط من أدوات إعلامية وعلاقات عامة، ظلت الجبهة، بحسب بولتون، الممثل الشرعي للشعب الصحراوي، قادرة على الصمود أمام حملات التشويه، مستندة إلى رصيدها النضالي وتقارير موثقة عن انتهاكات حقوق الإنسان ونهب الثروات في الإقليم المحتل. هذا الفشل المغربي في كسب المعركة على الرواية، يوضح أن الحقائق الصلبة، متى وُثّقت وأُدرجت في تقارير المنظمات الدولية، تظل أقوى من أي خطاب دعائي.
وفي سياق متصل، تكتسب الإشارة إلى قرار دونالد ترامب الاعتراف بـ»السيادة المزعومة» على الصحراء الغربية أهمية خاصة. بولتون وصف هذا القرار بأنه خطأ استراتيجي ارتبط بصفقة سياسية في إطار «اتفاقيات إبراهيم»، ما يعكس كيف يمكن لقضية تصفية استعمار أن تتحول إلى ورقة مساومة في ملفات أخرى لا علاقة لها بحقوق الشعوب. وهذا البعد يكشف خللاً في المنظومة الدولية، حيث يمكن أن تُباع القضايا العادلة في مزاد السياسة الخارجية مقابل مكاسب ظرفية.
كذلك، فإن دعوة بولتون إلى إنهاء بعثة المينورسو إذا لم تكن هناك نية لتنظيم الاستفتاء، تمثل رسالة ضغط على الأمم المتحدة نفسها، التي أصبحت في نظر كثيرين عاجزة عن فرض قراراتها. فالمهمة التي أُنشئت عام 1991 لتحقيق هدف محدد –وهو استفتاء تقرير المصير– تحولت إلى آلية إدارة أزمة بدلاً من حلها، ما يخدم سياسة المغرب في إطالة أمد الاحتلال.
ومن الزاوية الاستراتيجية، يمكن القول إن تصريحات بولتون تمثل نصرا سياسيا للدبلوماسية الصحراوية، إذ تمنح شرعية إضافية للموقف المطالب بالاستفتاء، خاصة وأنها صادرة عن شخصية أمريكية بارزة خبرت الملف من الداخل. فالرأي العام الغربي، الذي يتأثر بأصوات الساسة السابقين، قد يجد في كلام بولتون مبررًا لإعادة النظر في مواقفه، خصوصًا في ظل تنامي الخطاب المناهض للاستعمار في إفريقيا.
وفي المحصلة، فإن ما طرحه بولتون ليس مجرد رأي شخصي، بل شهادة سياسية تُسقط الأقنعة عن واقع يُراد له أن يبقى معتمًا. فالقضية الصحراوية، باعتبارها آخر مستعمرة في إفريقيا، تظل اختبارًا حقيقيًا لمصداقية النظام الدولي، وميزانًا لمدى قدرة الشعوب على انتزاع حقوقها في وجه قوى الاحتلال. وإذا كانت بعض العواصم تراهن على عامل الوقت لتصفية القضية، فإن التاريخ أثبت أن إرادة التحرر، مهما طال أمد الصراع، قادرة على قلب موازين القوى، وأن الشعوب التي تصمد لعقود لن تساوم على حقها في الحرية. وتصريحات بولتون جاءت لتذكّر الجميع أن الاستعمار، مهما تجمّل بخطاب التنمية أو الاستثمار، يظل استعمارًا، وأن تقرير المصير ليس منّة من أحد، بل حق أصيل لا يسقط بالتقادم.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19848

العدد 19848

الأربعاء 13 أوث 2025
العدد 19847

العدد 19847

الثلاثاء 12 أوث 2025
العدد 19846

العدد 19846

الإثنين 11 أوث 2025
العدد19845

العدد19845

الأحد 10 أوث 2025