صراع عمـيق بين ذاكرة استعماريـة وسيــادة وطنية جزائريــة صلبـة
تؤكد أستاذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر-3، البروفيسورة سعيدة سلامة، أن العلاقات الجزائرية- الفرنسية ليست مجرد صفحة من صفحات السياسة الخارجية، بل هي نص طويل كتب بالحبر والدم، وامتد عبر عقود من الاحتلال والنضال، ثم الاستقلال والصراع الدبلوماسي على السيادة والريادة.
قالت الأستاذة سعيدة سلامة، في تصريح أدلت به لـ «الشعب»، إن علاقة الجزائر وفرنسا، تختزن في جوهرها صراعًا عميقًا بين ذاكرة استعمارية لم يبرأ منها الوعي الفرنسي إلى اليوم، وسيادة وطنية جزائرية صلبة وعصيّة على الانكسار.
وأوضحت سلامة، أن ما برز في الفترة الأخيرة من انفعالات متسرعة، وتصريحات غير موزونة، وخطاب سياسي مشحون قادم من باريس، لم يكن وليد لحظة، وإنما هو انعكاس لاضطراب نفسي جماعي في بعض دوائر قرار الجمهورية الخامسة، التي مازالت أسيرة وهم التفوق وفكرة «الوصاية التاريخية» على الجزائر. وأضافت، أن هذا السلوك يكشف أن الاستعمار لم يكن مجرد قوة احتلال عسكرية، بل كان مشروعًا ذهنيًا ونفسيًا بقيت جذوره حاضرة في المخيال السياسي الفرنسي.
في المقابل، تقف الجزائر على أرض صلبة، متمسكة بمبدإ أن السيادة ليست ورقة تفاوض أو مساومة، وأن العلاقات الدولية تبنى على الندية أو لا تكون. فمنذ فجر الاستقلال، بنى بلد الشهداء خطابا وممارسة يرفضان كل أشكال التبعية، معتبرا الكرامة الوطنية خطا أحمرَ؛ وهذه الندية السيادية وضعت باريس أمام واقع جديد، أدت ببعض دوائرها إلى انتهاج خطاب استفزازي، متجاوزة الأعراف الدبلوماسية، أملا في جر الجزائر إلى رد فعل انفعالي يخفف من وطأة فقدانها نفوذها التقليدي، وفقًا للمتحدثة.
كما كانت الجزائر لعقود طويلة، بحسب سلامة، حجر الزاوية في النفوذ الفرنسي بإفريقيا؛ ذلك أنها بوابة الصحراء ومفتاح شمال القارة ونقطة ارتكاز جيوسياسي لا تقدر بثمن. إلا أن بلد الشهداء قلب اليوم المعادلة، وبدل الدوران في فلك فرنسا، اندفع نحو تنويع شراكاته الاستراتيجية، ومد جسور التعاون مع العمق الإفريقي في الساحل والغرب، ومع قوى كبرى كالصين وروسيا وتركيا والولايات المتحدة، إضافة إلى الانفتاح على أمريكا اللاتينية وآسيا، حيث حرم هذا التحول الجريء فرنسا من احتكارها التقليدي للقرار في المنطقة، وكسر دائرة الهيمنة التي لطالما اعتبرتها مسلمة. وتابعت الباحثة: «هذا التحول لم يكن مجرد خيار اقتصادي أو سياسي، بل كان إعلانًا صريحًا عن استقلال القرار الجزائري. وهنا بالتحديد برزت العقدة الفرنسية؛ إذ تحولت الجزائر، التي كانت في نظر الإليزيه مستعمرة سابقة تحت المراقبة، إلى قوة إقليمية وفاعل دولي مؤثر باعتراف القوى العالمية، وهو ما ولد في المخيال الفرنسي شعورا بالفقدان الإمبراطوري، وهذا الشعور، حين امتزج بالحنين الاستعماري، دفع باريس نحو سلوكيات متعالية، كشفت وجهها الحقيقي لعقلية ما قبل 1962».
ولكن الجزائر، التي خبرت التاريخ ودفعت ثمن الحرية بأغلى الأثمان، لا تنجر وراء هذه الاستفزازات، كونها تدرك أن قوتها في ثبات مواقفها، وأن الرد الأكثر فاعلية على نزعة الهيمنة يتمثل في تكريس الشراكات المتعددة، وتعزيز الحضور الدبلوماسي الدولي، والاستمرار في لعب دور الوسيط العادل في حل القضايا الإقليمية والدولية، وهذا ما يجعلها تحظى باحترام العالم، ويزيد من قلق من يحنون إلى ماض انتهى بلا رجعة، بحسب قولها.
وأردفت: «الجزائر التي حررت أرضها بدماء ملايين الشهداء من جيش الاستعمار، تحرر اليوم قرارها من بقايا نفوذه، وتعلن بلسان الفعل قبل القول، بأنها ليست ورقة في يد أحد، وليست ظلا لإمبراطورية أفلت شمسها، وأنها سيدة نفسها، تكتب حاضرها، وتصنع مستقبلها، وتفرض احترامها بندية لا تنكسر».
ما تشهده الجزائر اليوم ليس سجالاً دبلوماسيًا عابرًا، بل هو فصل جديد من المواجهة بين عقيدة السيادة الوطنية وعقلية الهيمنة الاستعمارية، وبينما تحاول فرنسا استعادة وهم السيطرة، تمضي الجزائر في طريقها، واثقة الخطى، متمسكة بحقها في أن تكون سيدة نفسها سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، ندية في علاقاتها الخارجية، وفية لرسالتها التاريخية في دعم الشعوب القابعة تحت وطأة الإحتلال، ورفض الوصاية، وصون كرامة الوطن، مهما كلف الأمر، تذكر أستاذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر-3، البروفيسورة سعيدة سلامة.