تبين اليوم من خلال ما يحدث في ليبيا ومصر وتونس وقبلهم العراق أن استهداف الدولة الوطنية والعمل على تقويضها كانت خطة تم وضعها وتنفيذها بأحكام هدفها القضاء على هذا الوعاء الجامع الذي استطاع استيعاب التنوع الديني، الثقافي والفكري واختصار كل ذلك في انتماء أشمل هو الوطن دون أن يعني ذلك إبعاد أي تفصيل من هذا التنوع أو العمل على إلغائه أو التخلي عنه بل على العكس ترقيته وتوسيعه باعتباره إرثا مشتركا لشعب بأكمله كما هو الحال بالنسبة لنا نحن كجزائريين فمن منا لا يفتخر بزربية ميزاب أو جبة القبائل أو برنوس الشاوية ...الخ فكلها منتوج وطن اسمه الجزائر، يمتلك تنوعا رائعا يتقاسمه الجزائريون بكل فخر ويرون فيه الوقود الذي يعزز انتمائهم إلى هذا الكيان الذي يجب أن يكون الحضن الذي يضم كل المواطنين وان تكون الدولة هي الضامن لهذا الموزاييك هذا ما أكده الدكتور عيسى بليكي.
لقد عملت فرنسا منذ اللحظات الأولى لاستعمار الجزائر على الاستثمار السلبي في هذا التنوع من خلال اللعب بورقة الانسجام المجتمعي الذي كان سائدا من خلال توفير جيش من الانثروبولوجيين وعلماء الاجتماع الذين حركتهم دوافع خبيثة بعيدة كل البعد عن شرف البحث العلمي والموضوعية لدراسة تركيبة المجتمع الجزائري ليتسنى لها التشويش على الخارطة الاجتماعية والانثروبولوجية ومحاولة اللعب على ورقة الاختلاف وتضخيمها لتشتيت الشعب الجزائري وجعله يغرق في متاهات هوياتية كانت محسومة ضمن سياسة فرق تسد أو اشغله بنفسه لكي لا ينشغل بك وهذا السيناريو الخبيث الذي نجحت فيه فرنسا الاستعمارية إلى حد بعيد ولازالت أثاره ماثلة إلى اليوم ولكنها رغم ذلك فشلت على مدار أكثر من قرن من إلغاء الإدراك المشترك لكل الجزائريين المتمثل في بلد اسمه الجزائر الذي نهض من أجل تحريره من رماد الدعاية الاستعمارية الكاذبة نفسها رجال هدفهم استعادة الشخصية والسيادة لبلد محدد المعالم والحدود لدى الجميع ولم يختلف حول هذه المسلمة التاريخية لا عميروش ولا السي الحواس ولا العربي بن مهيدي ولا الكثيرون غيرهم كلهم حاربوا من أجل استقلال الجزائر وليس منطقة القبائل فقط ولا الصحراء وحدها ولا غيرهما.
إن هذا الإرث الذي تركه لنا الشهداء هو الضامن الوحيد لاستمرار الأمة الجزائرية وهذا لا يمكن الحفاظ عليه إلا من خلال بناء دولة وطنية حديثة يمكنها مواجهة تحديات القرن الـ 21، تقوي روح الاعتزاز بالانتماء إليها والعيش في كنفها، ليس عبر شعارات متآكلة ولغة خشب لم يعد يفهمها أحد ولكن من خلال بناء مؤسسات قوية تؤسس لعدالة اجتماعية شاملة وتكون في الوقت نفسه قادرة على معاقبة كل من يعمل على تهديد وحدة الجزائر وانسجامها المجتمعي وقادرة على مواجهة الحملات المغرضة بعيدا عن العاطفة ومنطق رد الفعل ولكن ضمن منطق الاستباق والمبادرة حتى لا يجد أمثال المغني فرحات مهني الفرصة ليسيء إلى الجزائر ولمنطقة القبائل بل وبنصّب نفسه ناطقا باسمها وسط ابتهاج وسائل الإعلام الفرنسية التي أحاطت هذا الأخير بهالة كبيرة وقدمته على أنه رئيس حكومة القبائل المؤقتة والتركيز على إظهاره وهو يتغنى بإسرائيل وديمقراطيتها كمصدر إلهام لدولته الوهمية في حين أن العالم أجمع بما فيه الدول المؤيدة لإسرائيل تعترف أنها دولة عنصرية بامتياز.
إن الأولوية الآن أمام الأوضاع الاستثنائية التي تعيشها المنطقة والتهديدات المتزايدة هي الحفاظ على استمرار الدولة الوطنية وحمايتها من الحملات المركّزة التي تستهدفها والتي من بينها الاستثمار في الاختلافات والتنوع وتشجيعها على الانفصال والتفكك وتشكيل دويلات لا تمتلك ادني المقومات ليسهل الانقضاض عليها والتحكم فيها بينما التوجه العالمي العام يشجع التكتلات لمواجهة التحديات الكبرى لكي لا يجرفها تيار العولمة.