معضلة تؤرق الباحث النزيه

كتابة التاريخ صون للذاكرة الجماعية

لا تزال كتابة التاريخ معضلة تؤرق الباحث الحريص على النزاهة والوفاء للأحداث المحلية جغرافيا وإدراجها في سياقها الزمني بكل أبعادها الوطنية. ويعود في ذكرى 20 أوت المخلدة لهجومات الشمال القسنطيني التي فكت الحصار الاستعماري المضروب على منطقة الأوراس الحديث مجددا عن هوية المؤهلين لكتابة تاريخ ثورة أول نوفمبر ليكون رصيدا للأجيال تستلهم منه العبر وتستمد أيضا القوة المعنوية لمجابهة أي خطر محتمل يستهدف السيادة الوطنية. وفي خضم أزمة كتابته بين الطرح الرسمي الذي اظهر محدوديته وقصوره وانتشار ظاهرة الشهادات والمذكرات الشخصية، يتعرض مضمون التاريخ للخطر باحثا عن معالجة موضوعية ودقيقة تبرز الأحداث وتضع أصحابها في المراكز التي تعود إليهم ضمن البعد الوطني لحرب التحرير منعا لأي مصادرة شخصية أو محلية تغذي الحرب المضادة التي لا تزال تخوضها بعض الأوساط الكولونيالية معتقدة أن المعركة لم تنته وهي بالفعل لم تنته بالنظر لمدى الخطر المحدق ببلادنا في ميادين الاقتصاد والتنمية والتربية والإعلام والتاريخ بالذات. ولا يزال إلى اليوم مشروع إطلاق قناة وطنية تعنى بالتاريخ عامة وثورة التحرير خاصة ينتظر التجسيد بينما في الضفة الأخرى حيث أدركوا مبكرا أهمية هذا التحدي، تتعدد المنابر الإعلامية التي تصيغ القراءة التاريخية وفقا لتوجهاتهم من خلال تناول مغرض للمراجع والوثائق وتوظيفها في نفس اتجاه معركتهم، بل لا يزال عندنا من يستثمر بطرح سلبي في مختلف جوانب تاريخ الأمة بين من يحاول عبثا التميز بطرح تصورات غريبة تنطلق من التشكيك في أحداث أو التلاعب بمعطيات يشوبها غموض أو تقل فيها المراجع والشهادات من أجل تصفية حسابات قديمة أو محاولة الطعن في ظهر الذاكرة الجماعية يخدم هذا بالطبع المدرسة الكولونيالية المستفيدة من مناخ يتطلب تطهيره بدخول محترفي كتابة التاريخ الميدان. وفي الآونة الأخيرة برز في المشهد الإعلامي، خاصة على مستوى بعض القنوات الفضائية، توجه يضع الأشخاص في الصدارة على حساب المادة التي صنعتها الأحداث من مواقف وخيارات ونشاطات ميدانية، مما يؤكد القصور في رسم السيناريوهات والضعف في تناول الأحداث بفعل بساطة الطرح خاصة مع تغييب للمحيط الدائر بها حينذاك، علما أن إدارة الاحتلال وأدوات جيشه الملطخة يده بجرائم ضد الإنسانية لم تتوقف لحظة في تنفيذ عمليات مضادة للثورة، بما في ذلك الدعاية الهدامة لضرب المعنويات والتسريبات الموجهة ومحاولات التسلل للتأثير في الأحداث، لولا تفطن قادة الثورة الذين واجهوا المواقف في كل مرة بالحزم والمبادرة في الميدان. وعلى سبيل المثال فإن أحداث هجومات الشمال القسنطيني التي قادها الشهيد زيغود يوسف رفقة رفاقه الأبطال المسلحين بإرادة فولاذية وإقدام لا يوصف تعتبر قمة في النظريات العسكرية ومادة جديرة بالتدريس في الكليات الحربية، لما تحمله من فكر واستشراف وما ترمي إليه من أهداف سياسية، مما يستوجب معالجتها من حيث تدوينها في المسار التاريخي الحافظ للذاكرة بحجم أكبر بكثير من مجرد رسم التاريخ وذكر بعض الأسماء، إنما ضرورة معالجتها بمختلف الأشكال بما في ذلك تصوير أشرطة وأفلام تذهب إلى عمق العمليات من التسطير إلى التنفيذ وقراءة عالية الدقة للنتائج بالنسبة لمسار الثورة وتجاوز الإطار المحلي مما يضع الحدث وقائده ومنفذه من الشهداء والمجاهدين الأوفياء في قلب التاريخ نفسه. لقد كانت القيادة الجماعية والتوزيع المتناهي الدقة للمهام بين ما هو عسكري وسياسي مدني بشكل منسجم ومتكامل قيمة ميزت ثورة أول نوفمبر التي قدمت صورة راقية غيرت تماما أسلوب حركات المقاومة الشعبية التي ارتبطت بأسماء قادتها لتنتهي بسقوطهم في ميدان الشرف أو في الأسر، ولذلك سمح أسلوب العمل الجماعي الفعال ببروز منظومة قيادة ربطت بشكل وثيق بين التخطيط الاستراتيجي والتنفيذ في الميدان، وهو جانب يستحق البحث فيه والتأريخ له خاصة من حيث التزام المجاهدين بقواعد العمل ومنها السرية والانضباط والوفاء، وهي كلها من القيم النوفمبرية التي وجدت صدى في أوساط الشعب الذي سرعان ما أدركها بعد أن استوعب التحول الذي لاح في الأفق للخروج من نفق ظلمة الاستعمار الاستدماري البغيض. ولم يمض وقت كثير عن بداية الثورة بكل ما فيها من عنف وقساوة وحزم حتى انجرف إليها الشعب في غالبيته مصدقا الملحمة التي غيرت مجرى تاريخ الجزائر لتسترجع السيادة الوطنية كاملة غير منقوصة. لذلك لا ينبغي أن يغلق على كتابة التاريخ في مساحة ضيقة بقدر ما يجب أن يمتد مجالها إلى كل الجوانب مع التعرض لما هو سلبي أو نقص بمسؤولية وتجرد قصد سحب أوراق يلعب عليها خبراء التاريخ من المدرسة الكولونيالية، وحماية الذاكرة الجماعية من تغلغل أفكار وقراءات غير سليمة أو مصطنعة لأغراض مبيتة ينبغي التصدي لها بفعالية ترتكز على بعث كتابة تاريخ الثورة بروح موضوعية ووضع الجانب الإيجابي دوما في الصدارة دون خشية من أي تأثير لأحداث معزولة أو ظرفية أو غذاها المحتل، الذي يستغل التشويش والإثارة للتغطية على جرائمه للإفلات من محكمة التاريخ والقفز على حقائق تدينه أمام الأجيال.
سعيد بن عياد   

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19468

العدد 19468

الأحد 12 ماي 2024