لا يمكن لاثنين أن يختلفا حول ظاهرة مقيتة استقرت بين جنبات قطاع الاعلام وأخذت تمدّ أذرعها وجذورها إلى مختلف فروعه،ملقية بظلالها الداكنة على نزاهته، واضعة مصداقيته على المحكّ.
الظاهرة الدخيلة هذه، هي غياب دقّة المعلومة التي نراها للأسف الشديد تضيع بين ثنايا المنافسة الشديدة التي تشهدها مختلف الوسائل الاعلامية التقليدية منها والحديثة، ليحلّ محلّها التضليل الاعلامي، الذي بات معضلة الاعلام في زمننا البائس هذا، ومن العوامل الجوهرية المؤجّجة والمسبّبة للكمّ الهائل من الأزمات والتوتّرات التي تعصف بالعالم، وبمنطقتنا العربية على وجه الخصوص.
لا شكّ أن أهمّ درس يتلقاه المقبل على العمل في الحقل الإعلامي، هو حتمية أن يقتفي أثر الخبر اليقين من مصدره الموثوق، وأن لا ينشر غير المعلومة الصادقة، كما أن القاعدة المهنية تجعل من دقّّة المعلومة الركيزة الأساسية للممارسة الاعلامية، لكن هذه القاعدة على ما يبدو صنعت لها جناحين وطارت بعيدا، لتصبح النزاهة والمصداقية والحياد عملة نادرة، والمعلومة الصحيحة أسيرة توجيهات من يملك الوسيلة الاعلامية ويتحكّم بتوجيه خطّها الافتتاحي في الوجهة التي يريد.
من هنا يبرز التّضليل الإعلامي الذي أصبحت الكثير من الدول تسخّر له ترسانة من وسائل الاعلام والاتصال، بدءا بالقنوات الاخبارية والصحافة الورقية، مرورا بوكالات الأنباء ومواقع الأنترنيت ووصولا إلى أجهزة المحمول برسائلها وفديوهاتها، لاستعمالها كأدوات دعائية ونفسية للتأثير على المتلقي، أو لتبرير مهمّة قذرة تنفذها ضدّ دولة أو نظام ما، مثلما حصل ويحصل في وطننا العربي، تارة باسم الديمقراطية، وأخرى باسم الربيع والتغيير.
فهذا التّضليل والتّزييف المتعمّد للحقائق نستشفه بوضوح من خلال الغزو الأمريكي للعراق في ربيع 2003، والذي تمّ عبر حملة من المزاعم والأكاذيب نسجتها مخابر «السي أي أيه»، التي صوّرت بلاد الرافدين على أنها دولة مارقة تمتلك من سلاح الدّمار الشامل ما يمكنه أن ينسف العالم بأسره ويقضي على الحياة من وجه الأرض، كما نستشفه من الأزمة السورية التي تقدّمت الدعاية فيها على الآلة العسكرية، وتفوّقت عليها فكانت ولا زالت أشدّ بطشا وتدميرا.
التضليل أشدّ بطشا من السلاح
كتب أحد الصحافيين الفرنسيين يقول «في خضم الصّراعات والحروب، تسمح الدول العظمى لنفسها بممارسة شتى أنواع التضليل لشرعنة أفعالها وتوهم العالم بأحقية خطابها فيصبح التّلاعب بالمعلومات شائعا ويكون كل شيء مكرسا لتعبئة الشعب ونشـــــر أنصـــــاف الحقائق، من خلال الاسقاطات وبث الإشاعات التي لا يمكن التأكد من صحتها، وتعريف الحرب على أنها عادلة ولا مفر منها ودفاعية».
هذا الكلام ينطبق بالفعل على ما وقع للعراق بالأمس وما يقع اليوم لسوريا، ولنبدأ بالأول، لقد وظّفت أمريكا في حربها الإعلامية على العراق تقنيات حديثة وقديمة لغسل الأدمغة وإحداث الوقع على العقول والقلوب، ومغالطة الجماهير وكسب دعمها حتى لا تظهر سياستها الخبيثة على حقيقتها.
وزعمت الآلة الإعلامية الأمريكية التي كانت متبوعة آنذاك بحرب دعائية قادها رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، أن العراق يملك سلاح الدمار الشامل وهو يهدّد أمن واستقرار المنطقة، وصوّرت الرئيس الراحل صدّام حسين على أنه ديكتاتوري يقتل شعبه، بل وامتد بها الأمر إلى درجة توريط العراق في أحداث 11 سبتمبر، وربطه بالقاعدة. ولما انتهت من نسج خيوط كذبها، وتأكدت من حشو أدمغة العراقيين بمزاعمها ومغالطاتها القذرة، حرّكت مقنبلاتها وغزت بلاد الرافدين، وترجمت حرّيتها الموعودة إلى احتلال مدمّر، وديمقراطيتها الزائفة إلى فوضى أمنية وطائفية بغيضة وانهيار اقتصادي وفساد وعدم استقرار مستمر ّمند 15 عاما.
أكذب حتى يصدّقوك
التضليل الاعلامي كان إذن الوسيلة التي هيّأت الطريق أمام أمريكا لاحتلال العراق وتدميره، والتضليل نفسه زجّ بسوريا في أتون الحرب، فالدّم الذي يراق في بلاد الشام مند ثماني سنوات، تتحمّل وزره وسائل الاعلام، وتحديدا قنوات الفتنة العربية التي حوّلت قاعات تحريرها إلى ما يشبه غرف العمليات العسكرية، حيث فتحت «بلاتوهاتها» لكل من يعارض النّظام السوري ولكل من هو بارع في الكذب وتزييف الحقائق، وبات الباحث عن الحقيقة في هذه القنوات التي كشفت الأيام خبثها ودناءتها، كمن يبحث عن إبرة في كومة قشّ.
إعلام قذر قادته هذه القنوات التي حوّلت «الخبر العاجل» الكاذب إلى صواريخ تقذفها على الشعب السوري، وملأت شاشاتها بالشهود العيان الذين يشبهون في أدوارهم الخبيثة المرتزقة الذين يشترون ويباعون بالأموال، وظلّت تقصي كل من يسعى لتقديم المعلومة الصادقة، وتسدّ أبوابها في وجه من يدعو للتهدئة، وتقدّم الإرهابي سفّاك الدماء على أنه مقاتل وفي كثير من الأحيان ضحية، وتسند الجرائم التي يرتكبها الدمويون إلى النظام، وبينها استعمال الكيمياوي. باختصار لقد أّدت هذه القنوات من خلال التدليس الاعلامي والافتراء والاشاعات، دورا لا يؤدّيه غير السلاح، ليتجلى بوضوح، أن دقة المعلومة، الحيادية، الموضوعية والنزاهة أصبحت في متحف التاريخ، والاعلام التضليلي - للأسف الشديد - بات صانع الأحداث، خاصة بما توفره التكنولوجيات الحديثة من إمكانيات.وأضن أن مواجهة هذه المعضلة لن تكون بغير صحوة ضمير، وعودة إلى القواعد الإعلامية الصحيحة من مهنية والتزام بالصدق والنزاهة في نقل الخبر وتقديمه.