توجيـه رؤوس الأمــوال نحو نمو شامــل وتعزيــز الميثـاق الرقمـي العالمـي
إرادة سياسية.. تفعيل الشباك الوحيد وإلغاء القاعــــدة 49/51.. قواعــد النجـاح
1.43 مليار دولار استثمارات أجنبية بالجزائر عام 2024.. حصيلة تعكس الإصلاحــات
بـلادنا تصــدّرت دول المغــــرب العربـــي في جـذب الاستثمار الأجنبي خـلال 2023
في مرحلة يشهد فيها الاقتصاد العالمي تحديات وتغيرات كبرى أثّرت بعمق على سلاسل الإمداد وحركة رؤوس الأموال، يبرز التقرير الأخير لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “أونكتاد” بوصفه تأكيدًا جديدًا يُضاف إلى سلسلة التقارير الدولية التي تثني على تحسّن مناخ الاستثمار في الجزائر..
وقد أشاد التقرير بالنمو المتسارع للاستثمارات الأجنبية المباشرة في الجزائر، رغم الظرف الاقتصادي العالمي المتأزم. ويُعزى هذا الأداء، وفق ما أورد التقرير، وبحسب إجماع خبراء الاقتصاد والمراقبين الدوليين، إلى الإصلاحات الجوهرية التي أطلقتها الجزائر، لا سيما مراجعة الإطار القانوني للاستثمار، واعتماد الرقمنة في مختلف القطاعات لضمان دقة البيانات المعتمدة في رسم السياسات العمومية، كما ساهم تبني استراتيجية قطاعية شاملة ومتنوعة، وتعزيز الشراكة مع القطاع الخاص، وتفعيل الآليات القانونية والمؤسساتية لمكافحة الفساد، في ترسيخ ثقة المتعاملين الاقتصاديين، وتدعيم مسار التحوّل نحو اقتصاد منتج ومنفتح.
قدّم الخبير الاقتصادي، البروفيسور هواري تيغرسي، في اتصال مع جريدة “الشعب”، قراءة تحليلية للتقرير الأخير الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “أونكتاد”، والذي يُعد مرجعًا دوليًا مهمًا في مجال الاستثمار، لاسيما فيما يتعلق برصد الفرص والتحديات التي تواجه الدول النامية.
وأوضح تيغرسي أن الإصدار الجديد لـ«أونكتاد”، الموسوم بـ«الاستثمار العالمي في الاقتصاد الرقمي”، أشاد بمناخ الاستثمار في الجزائر الذي شهد تطورًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة. ويُعزى هذا التحسن، وفقًا للتقرير، إلى جملة من الإصلاحات الهيكلية، أبرزها تحديث المنظومة التشريعية، وترسيخ بيئة قانونية مستقرة وآمنة، مدعومة بضمانات واضحة وحوافز ضريبية مشجعة، كما أشار إلى أن إلغاء قاعدة 49/51 شكّل تحوّلًا مهمًا، أتاح المجال أمام كبرى الشركات العالمية للدخول إلى السوق الجزائرية والاستثمار في عدّة قطاعات واعدة.
الإصلاحـــات تثمــر أرقامــا إيجابيـة
وسجل البروفيسور تيغرسي أن أبرز عامل وراء تصدّر الجزائر قائمة الدول الإفريقية ذات البنية الاقتصادية الصلبة، هو ما كشفه تقرير “أونكتاد” بشأن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، التي شهدت ارتفاعًا لافتًا بفضل إصلاحات اقتصادية كلية، فقد بلغ حجم هذه التدفقات سنة 2023 نحو 1.21 مليار دولار، مقارنة بـ255 مليونًا في 2022، و870 مليونًا في 2021. ويُظهر هذا النمو - بحسب التقرير - أن الجزائر تصدّرت دول المغرب العربي في جذب الاستثمار الأجنبي خلال 2023، واحتلت المرتبة 14 إفريقيًا ضمن أكثر الدول استقطابًا لرؤوس الأموال الأجنبية.
أما على الصعيد القاري، فأوضح تيغرسي، مستندًا إلى التقرير نفسه، أن حجم الاستثمارات الأجنبية في إفريقيا بلغ حوالي 52.63 مليار دولار خلال 2023، مسجلًا تراجعًا بنسبة 3 بالمائة مقارنة بسنة 2022، وأشار المتحدث إلى أن تطبيق قانون الاستثمار الجديد (18/22) وتفعيل الشباك الوحيد لتسهيل الإجراءات، عزّزا المناخ المؤسسي ورفعا من جاذبية السوق الجزائرية، وهو ما تؤكده الأرقام المسجلة بين عامي 2022 و2023، ما يدل على بدء ظهور نتائج الإصلاحات فعليًا، وأضاف أن تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة نحو الجزائر واصلت نموها رغم التحديات العالمية، حيث بلغت 1.43 مليار دولار عام 2024، بزيادة قدرها 18 بالمائة مقارنة بعام 2023، وفق الإحصائيات المتوفرة.
وأشار التقرير إلى مجموعة من العوامل التي ساهمت في إعادة الجزائر تدريجيًا إلى خارطة الاستثمار العالمي، أبرزها ما تضمنه قانون الاستثمار من إصلاحات تشريعية توفّر وضوحًا واستقرارًا قانونيًا، فضلًا عن الجهود المبذولة لتنويع الاقتصاد خارج المحروقات.
وفي هذا السياق، أبرز تيغرسي أن الجزائر أصبحت أكثر جاذبية في قطاعات الصناعة، الفلاحة، السياحة، والطاقات المتجددة، مدعومة بموقعها الاستراتيجي الذي يجعل منها منصة إقليمية وبوابة نحو إفريقيا وأوروبا. كما ساهم التطور الملحوظ في البنية التحتية، خاصة في مجالات الموانئ، مشاريع النقل، والربط الطاقوي، في تسهيل حركة التجارة الخارجية وتنشيط عمليات التصدير والاستيراد.
إرادة سياسيــة وأدوات رقميـة وتنظيميـة
ونوّه تيغرسي بوجود إرادة سياسية واضحة لتعزيز جاذبية الاستثمار وتحسين مناخ الأعمال في الجزائر، معتبرًا أن هذه الإرادة تعكس مصداقية الوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار أمام المستثمرين، خاصة من خلال تفعيل الشباك الوحيد، الذي يهدف إلى ضمان الشفافية وتكافؤ الفرص بين جميع المتعاملين الاقتصاديين، بدعم من الأدوات والوسائل الرقمية، على غرار المنصة الرقمية المخصصة للمستثمرين.
وفي السياق ذاته، أشار تيغرسي إلى انضمام الجزائر إلى عدد من الاتفاقيات القارية والدولية، أبرزها منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، وهو ما أسهم في تعزيز جاذبية السوق الجزائرية، من حيث فرص التصدير نحو الأسواق الإفريقية، وتموقع الجزائر كممر استراتيجي نحو العمق الإفريقي بالنسبة للشركات الآسيوية والأوروبية، التي تنظر إلى إفريقيا باعتبارها قارة المستقبل الاقتصادي، وأضاف أن وفرة الموارد الطبيعية وتوفر يد عاملة مؤهلة تمثلان عاملين إضافيين لاستقطاب الشركات الاستثمارية نحو الجزائر، لافتًا إلى أن الشباب يشكلون نسبة معتبرة من التعداد السكاني، وهو ما يمنح البلاد ديناميكية ديموغرافية كبيرة، يقابلها مستوى عالٍ من التعليم والقدرة على الابتكار، ما يعزز من فرص تحقيق نهضة اقتصادية شاملة.
الاستثمــار الرقمــي .. وجهـة المستقبـــل
من جهة أخرى، وعلى صعيد الاقتصاد العالمي، أشار التقرير إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 11بالمائة خلال عام 2024، بسبب تباطؤ استثمارات البنية التحتية والصناعات التحويلية، إلى جانب التحديات التي يواجهها العالم في ظل تصاعد التوترات التجارية، وعدم الاستقرار في السياسات والانقسامات الجيوسياسية، وهو ما ساهم في تدهور بيئة الاستثمار.
وقد رأت “أونكتاد” - بحسب تيغرسي - في الاقتصاد الرقمي نقطة ضوء وسط هذا السياق الدولي المضطرب، مشيرة إلى الدور المهم للاستثمار الدولي في تطوير البنية التحتية الرقمية، بما يسهم في سد الفجوة الرقمية العالمية. كما قدم تقريرها توجيهات عملية لمساعدة الحكومات على استقطاب رؤوس الأموال وتوجيهها نحو نمو اقتصادي شامل، ينسجم مع الميثاق الرقمي العالمي الذي تبنته الأمم المتحدة وأهداف التنمية المستدامة.
ورغم تركيز التقرير في نسخته لهذا العام على الاستثمار في الاقتصاد الرقمي، إلا أنه أشار إلى أن الجزائر تسير بخطى واعدة في مسار التحول الرقمي، ما يجعلها مؤهلة للاستفادة من التدفقات الاستثمارية في مجالات التكنولوجيا، والخدمات الرقمية، والبنية التحتية الذكية.
كما نوّهت “أونكتاد” بالإرادة السياسية الواضحة لدى الجزائر لتحسين مناخ الأعمال وجذب الاستثمار النوعي، مؤكدة أن المرحلة المقبلة مرهونة بتواصل الإصلاحات وتفعيل الشراكات الدولية لدفع عجلة النمو، وأوصى التقرير بتحديث الأطر القانونية والمؤسسية، وتطوير استراتيجية استباقية لجذب الاستثمار، إلى جانب تقوية القطاع الخاص المحلي من خلال بناء روابط فعالة مع المستثمرين الأجانب.
الإحصائيــات الوطنيــة تؤكـد..
في سياق ذي صلة، ارتأى تيغرسي التطرق إلى تقرير مفصل للديوان الوطني للإحصاء، حول أداء الاقتصاد الوطني، خلال الأشهر الثلاثة الأولى من هذه السنة، حيث سجل نسبة نمو اقتصادي بـ4.5 بالمائة مقارنة بـ 4.2 بالمائة في الفترة نفسها من عام 2024، في حين سجل الناتج الداخلي الخام خارج المحروقات ارتفاعا بـ5.7 بالمائة، ما يعكس تقدما في جهود تنويع الاقتصاد الوطني. وأرجع تيغرسي هذا الأداء الإيجابي أساسا إلى انتعاش عدد من القطاعات، حيث ارتفعت القيمة المضافة في قطاع الزراعة بـ6.1 بالمائة، مدفوعة بنتائج جيدة لحملة تشجيع الزراعات الصحراوية، كما شهدت الصناعات الغذائية نموا بـ5.6 بالمائة، وصناعات الجلود والأحذية ارتفاعا بنسبة لافتة بلغت 15.4 بالمائة، إضافة إلى قطاع التجارة 8.9 بالمائة والنقل والاتصالات 8.3 بالمائة.