في رحاب الدراسات الأكاديمية

حينما يكون العلم في خدمة الفن

أسامة إفراح

لطالما كان الحديث عن الفن والفنان فرصة نذكّر فيها بضرورة البحث المعمّق في هذا المفهوم، والتحكّم فيه بشكل أكبر وأدقّ.. من أجل ذلك، ارتأينا في هذه السانحة القيام بجولة عبر مقالات أكاديمية بحثت في ماهية الفن، من منظور مختلف العلوم والمدارس، وقد استأنسنا بهذه الدراسات، على سبيل الذكر لا الحصر، دلالة على مئات الأعمال التي ينجزها باحثون من مختلف جامعات الوطن، والتي قد لا تلقى العناية الكافية، والقراءة المتأنية، ولا تعقبها نقاشات فكرية، مع أن التاريخ يُرينا كيف أن الفن والفكر يتماشيان معا، ولا ينفصلان.
تنطلق جولتنا من بدايات الفن، مع إنسان ما قبل التاريخ، وكيف ارتبط تاريخ الفن بتاريخ الإنسان، والعكس صحيح.

«التأريخ للفن.. تأريخ للإنسانية»

إن الإنسان، في رأي د.محمد رشدي جراية من جامعة الوادي، هو»الكائن الحي الوحيد الذي يستطيع أن يعبر عن مشاعره وأحاسيسه ووجدانه من خلال قيم جمالية فنية»، ويذهب الباحث في دراسته «إرهاصات الفن البدائي»، إلى القول إن «الإنسان البدائي كان له السبق في هذا المضمار من العصور الحجرية القديمة»، وكان الإنسان فيها وحيدا ضعيفا أمام الطبيعة وسطوتها، فوجد في الفن «متنفسا له من ضيق العالم»، وسهل ذلك لظهور الفن على المسرح الحضاري ابتداء من العصور التاريخية.
من أجل ذلك، فإن للفن تاريخا قديما، «هوتاريخ الإنسانية»، يقول د.محمد بلعربي في ورقته البحثية «الفن والتاريخ»، ويرتبط بين تطور الكتابة والفن، حينما يرى أنه إذا «أدخلنا الكتابة في أنواع التصوير قلنا إن الإنسان قد استعان عن الصور المباشرة بكتابة يكتفي فيها بالرمز إلى الموضوع دون رسمه رسما مباشرا، وهذا يدل على أن الفن قد تطور في مساره التاريخي، وانتقل من البدائية الساذجة والصورة الواضحة المباشرة إلى التجريد الغامض، والتعقيد المطلسم الذي يختلف فيه الفهم ويكثر التأويل»، وهذا ما نتج عنه اليوم مدارس فنية مختلفة واتجاهات متباينة، تصل أحيانا إلى حد التناقض في الشكل والمضمون.
ولما كان التعبير الفني «من أبرز ما عرف به الإنسان منذ العصور القديمة»، كما تقول نادية درقام أستاذة الفلسفة بجامعة وهران في مقالها العلمي «الفن وتياراته في الغرب»، فإن الفن لطالما ارتبط في مفهومه بالجمال، إلى درجة الخلط بين المفهومين. وظهرت مختلف التيارات التي تبنت مواقف مختلفة من الفن، تذكر درقام من بينها التيار الكلاسيكي، والنقدي، والحداثة وما بعد الحداثة التي تعترف بحرية الفن واستقلال الدائرة الجمالية، ومن هذه التيارات المختلفة، «نجد أن الرؤية الجمالية للغرب وموقفها من الفن كان ينطلق من رؤيتها للوجود وموقفها الفلسفي منه».

الفن والجمال.. من أفلاطون إلى هايدغر

ولا يتلخص الاهتمام الفكري بالفن في هذه التيارات، حيث عنت الفلسفة بهذا المجال منذ بداياتها، وإن لم يرُق الفن بالضرورة لكلّ الفلاسفة القدماء، حيث لم يرَ أفلاطون في الفن أكثر من تقليد، وبادر إلى طرد الشعراء من جمهوريته الفاضلة ورأى في كل ممتهن للشعر مجرّد مقلّد. وباستعمال آلة للسفر في الزمن، سنصل إلى الإستيطيقا ومؤسسها بومغارتن وبعده كانط، إلى نيتشه الذي كان هدفه من خلال تطبيق القراءة التحليلية النقدية على الفن، «تحديد معناه الجوهري وتوضيح كيفية بلوغه الحقيقة الجمالية»، وهوما تراه فتيحة كرمين من جامعة تلمسان في مقالها «الفن والجماليات عند نيتشه»، ليتضح لدى الفيلسوف الألماني أن الفن قد «تعرض لانتكاسة قوية تسببت فيها العدمية التي أدرجت الفن في فضاء العقلانية، وذلك ما أدى إلى تأسيس فن آلي وأداتي يفتقر إلى فعل الإرادة والرغبة والاشتراك في التجربة الجمالية»، تقول ذات الباحثة رفقة رباني الحاج في مقالهما «جمالية الفن وثقافة اللاعقلانية في فكر نيتشه». ثم يأتي هايدغر الذي أحدث القطيعة مع هذا الطرح، ورأى أن الطرح النيتشوي غير متماسك.. ويقول سعد العيدودي من جامعة وهران، في مقاله «إشكالية الفن عند مارتن هيدغر»، إن موقف هايدغر قائم على التوتر الداخلي بين الأرض والعالم، فالأرض عنده تمثل الأم الخصبة والمصدر الأولي لكل شيء، والعمل الفني بوصفه حدثا تتكشف فيه الحقيقة يمثل الإمساك بهذا التوتر واحتباسه في «شكل».. والعالم لا بد له أن يواجه الأرض لأنه يمثل الظهور والتفتح، بينما تمثل الأرض الانطواء، ولا تتحقق وحدة العمل الفني إلا من خلال الصراع بينهما، «ولا يصل الفن إلى مرحلة التوازن فيصبح قارا في ذاته إلا بعد أن يجتاز مرحلة التوتر الحاد بينهما، وهكذا يتحول تشييد الأرض وعرض العالم إلى صفتين رئيسيتين للعمل الفني من وجهة نظر هايدغر». وإذا كان أفلاطون ينبذ الشعر والشعراء، فإن هايدغر يكاد يرى أن الفن في ماهيته هوشعر.

«رؤية سوسيولوجية وسيكولوجية للفن»

ولم يغفل علماء الاجتماع الاهتمام بالفن، من ابن خلدون إلى مدرسة فرانكفورت والماركسية الجديدة وغيرها من التيارات، إلى حدّ ظهور علم اجتماع الفن. وبرزت أعمال بيير بورديوبشكل خاص، وهوالذي أفرد للفن كتبا متعددة، ولعلّنا نستشهد هنا بقول لبورديو، نقله لنا د.محمد جبالة من جامعة معسكر في مقاله «ظاهرة الفن من منظور سوسيولوجي».. يقول بورديو: «خلافا لما يحدث في مجالات احياة الاجتماعية، فإن المال لا يصلح لأن يكون أداة لقياس قيمة الفن، في العصر الحديث على الأقل. يمكن لكتاب يباع منه بضع مئات من النسخ في السنوات الأولى بعد صدوره، أن يكون على المدى المتوسط أوالبعيد مصدر ثروة هائلة لناشر يعرف كيف يراهن في «المدى الطويل» على «الأدب الخالص» بدلا من الطبعات التجارية على المدى القصير».
ويرى كل من د.حلمي دريدش وأ.عبد المجيد قاسمي الحسني من جامعة البليدة، في مقالهما «الفن بين الإنتاج البشري والرمزية الاجتماعية»، أن الفن، باعتباره جزءً هاما من التراث الحضاري، وأحد العناصر الأساسية والرئيسية التي تشكل ملامح المجتمع وتحدد هويته الثقافية، ركيزة للموروث الاجتماعي والحضاري الذي يستمد منه أفراده التميز الخاص بهم، والذي عمل على تماسك واستقرار وبلورة الشخصية الاجتماعية العامة، ناهيك عن القيمة الرمزية التي يعبر عنها الفن، بالإضافة لقيم أخرى كالقيمة الجمالية والترفيهية والتي تهدف إلى تخفيف الضغط وتلطيف الجوالعام للحياة الاجتماعية.
كما تعد مشكلة الفن أوالإبداع الفني «لغزا سيكولوجيا، بل لغز الألغاز»، أ.هشام بن جدومن المدرسة العليا للأساتذة بقسنطينة، في مقاله «مشكلة الفن بين التشخيص الباثولوجي والأفق الأنسي العلاجي»، مضيفا أنه وفق فرويد، مؤسس مدرسة التحليل النفسي، فإن الأعمال الفنية «مجرد تعبير عن الجنوسية السلبية؛ في حين يعتبر يونغ بأن الفن يساهم في تطور الوجود الإنساني».

«الإنسان وُجد ليكون فنانا»

ويعتبر يوري لوتمان، في مقال ترجمه البروفيسور عبد القادر بوزيدة من جامعة الجزائر، عنوانه «الفن باعتباره لغة»، يعتبر أن الفن «وسيلة من وسائل الاتصال، وهو، دون شك، يحقق صلة بين مرسل ومتلق (ويكون المرسل والمتلقي قد يجتمعان، في بعض الحالات، لا يغير من الأمر شيئا، ذلك أن شخصا يحدث نفسه يجتمع فيه المتكلم والمستمع)».
ولكن أهميّة الفن للإنسان تتعدّى المهام الاتصالية، فصراع الإنسان الدائم مع قوى الطبيعة أدّى بالضرورة إلى بروز العديد من الفنون، وهوما تؤكده أستاذة الفلسفة نادية درقام، التي ترى أن «ظهور الفن في حياة الإنسان تأرجح بين ضرورة وجودية، بمعنى أن الإنسان لا مناص له إلا أن يكون فنانا أومعبرا عن فن من الفنون»، وبين أنه «وجد الفن أرقى تعبير عن اكتشافاته، بحيث كان كل اكتشاف يعبر عنه فنيا وبالتالي كل تطور عرفته البشرية توج فنيا». وفي كلتا الحالتين، تقول درقام، «كان الفن أهم سمة عرفتها البشرية، وكأن الإنسان وجد ليكون فنانا».

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024
العدد 19444

العدد 19444

الأحد 14 أفريل 2024