في حوار قبل تعيينه وزيرا للثقافة ميهوبي لـ : الشعب

رئيس الجمهورية أوْلىَ الكتابَ والنشرَ أكبر الاهتمام

حاوره: أسامة إفراح

ضبط استراتيجية لتصدير الكتاب الجزائري

المجتمع المثقف مجتمع معادٍ للعنف والإرهاب

لا يمكن الحديث عن الكتاب دون التطرق إلى مكوّنتيْه الأساسيتين: اللغة، والفكرة.. والأخيرة لا يمكن التعبير عنها وتجسيدها على أرض الواقع، دون اللغة التي تنتقل بالأفكار من العالم الذهني المتخيّل إلى عالم الملموس.. في هذا الصدد كنا قد التقينا السيد عز الدين ميهوبي، وزير الثقافة الجديد، حينما كان على رأس المجلس الأعلى للغة العربية، وذلك في إطار تحضيرنا لملف حول واقع الكتاب في الجزائر.  يرى ميهوبي في هذا الحوار بأن اللغة العربية هي أغنى خزان للمفردات في العالم، ولا يمكن أن تشكّل عائقا أمام البحث، الكتابة، والنشر.. كما أن سياسة الدولة تتجه إلى تشجيع النشر والإبداع الثقافي، وهو ما يراه ميهوبي بعين الشاعر والإعلامي والمثقف، في هذا الحوار المطوّل الذي خصّ به “الشعب” قبل أن يكلّف بحقيبة الثقافة في الحكومة الجديدة..
- الشعب:  في البداية، هل لنا بنبذة عن أهم مهام المجلس الأعلى للغة العربية (الحوار أجري قبل تولي السيد ميهوبي منصب وزير الثقافة)؟
*عز الدين ميهوبي: المجلس الأعلى للغة العربية هو هيئة استشارية لدى فخامة رئيس الجمهورية، تكمن مهامه في متابعة تطبيق مدى تعميم استعمال اللغة العربية في مختلف مناحي الحياة، في الوزارات والمؤسسات ومختلف المجالات.. ثانيا هناك جهد يقوم به المجلس في التنسيق مع مختلف الهيئات التي تسعى إلى تطوير أدائها في مجال اللغة العربية، إذن دورنا هو ميداني بالدرجة الأولى، ويعزز هذا الدور ببعض الأعمال المكملة، مثل إشراك الخبراء والمثقفين في نشاطات المجلس، سواء من خلال إصدار مجلة اللغة العربية، وهي مجلة دورية، فضلا عن مجلة أخرى وهي مجلة “معالم” التي تهتم أكثر بالترجمة إلى العربية لمقالات أو بحوث صدرت في لغات أخرى في مجالات الفكر والثقافة والمجالات اللغوية.
إلى جانب هذا يتمّ إصدار الأعمال التي تنبثق عن مسابقة المجلس التي تتم كل سنتين، وكذا إصدار مختلف البحوث والمحاضرات التي هي ثمرة ندوات ينظمها المجلس في مجال معين.
فنشاط المجلس له جانب للنشر، وله أيضا جوانب أخرى، هي التعاطي مع الهيئات الدولية التي تعنى بمسائل اللغة، كالمؤتمر العربي للغة العربية، وهيئة التعريب التي مقرها في المغرب، ونحن على تواصل ونقدم دائما تجربة الجزائر في هذا المجال، تجربة كثيرا ما تكون مثار إعجاب واهتمام مختلف الخبراء والأطراف التي تعنى بشؤون اللغة العربية.
كما أن المجلس يتوفر على فوج عمل يسمى فوج المحتوى الرقمي، فالتحولات التي يشهدها العالم في مجال الاتصال والثورة الرقمية ولدت الحاجة إلى ضرورة تطوير اللغة العربية في هذا المجال، وبالتالي يتبنى المجلس بعض الخبراء من الجامعات الجزائرية، الذين يسعون إلى إنتاج تطبيقات رقمية بالعربية، حتى يكون هناك إسهام للجزائريين في تطوير هذه اللغة وتحسين محتواها في شبكة الأنترنت، وهذا العمل نراه رهانا حقيقيا لسد الفجوة الرقمية مستقبلا.
وهناك أيضا الندوات التي نقيمها بصورة دائمة، إما في شكل تكريم لبعض المثقفين والكتاب والشخصيات التي خدمت اللغة العربية في الجزائر، أو إبراز لجهود بعض الهيئات والجمعيات عبر مسار الجزائر الثقافي والتاريخي، والتي نكرمها ونتوقف عندها، وفي أحيان نوجّه الدعوة لبعض الشباب والأقلام الجديدة لاستعراض مهاراتهم في خدمة اللغة العربية وفي تطويرها، ونهتم أيضا بالجانبين الأدبي والعلمي من خلال التعريف بالمجتهدين في هذين الحقلين، إذن فعملنا لا يتوقف، ودائما نوجد لأنفسنا مواقع وفضاءات ننشط فيها، والآن ركزنا على الجامعة خاصة، وأنا شخصيا قدمت أكثر من محاضرة في جامعات مختلفة في فترة قياسية، ولاحظت أن هناك عملية انخراط تلقائي للجامعيين الذين يعنون باللغة العربية ويقدمون خدماتهم لتحسين الأداء سواء على المستوى التربوي أو الإعلامي، وهذا الشيء شديد الأهمية.

للكتاب مكانة هامة في برنامج رئيس الجمهورية

- سؤالنا التالي موجه إلى سيادتكم ليس فقط كرئيس المجلس الأعلى للغة العربية، وإنما كمثقف وشاعر وكاتب. كيف ترون المشهد العام للنشر والكتاب في الجزائر، وبصفة أخص الكتاب الناطق باللغة العربية؟
* في البداية لا بد من عملية تشخيص أولي.. إن الوضع في السنوات العشرة الأخيرة أفضل حالا مما كان عليه في السبعينيات والثمانينيات، حيث لم نكن نتوفر سوى على عدد محدود من دور النشر، كان أبرزها المؤسسة الوطنية للنشر والتوزيع، التي كان يلجأ الجميع إليها لطبع أعماله الأدبية والفكرية والثقافية، إلى جانب ديوان المطبوعات الجامعية، وعدد قليل من دور النشر الخاصة التي كان جهدها متواضعا.
لكن مع مجيء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، حظي الكتاب، شأنه في ذلك شأن المنظومة الثقافية الوطنية، بالاهتمام وسخرت إمكانات هائلة جدا، ومن نتائج ذلك أننا نرى عملية التكفل بطبع الأعمال التي تتم ضمن الفعاليات الثقافية الكبرى التي نظمتها الجزائر (سنة الجزائر في فرنسا 2003، الجزائر عاصمة للثقافة العربية 2007، المهرجان الأفريقي الثاني بالجزائر في 2009، تلمسان عاصمة للثقافة الإسلامية 2011، والآن قسنطينة عاصمة للثقافة العربية 2015) وكل هذه الفعاليات مكنت الناشرين من أن يوجدوا لأنفسهم سوقا لطبع أكبر قدر ممكن من المؤلفات، ولا أتحدث عن الكتاب المدرسي ولكن عن الكتاب الذي هو منتوج فكري وذهني.
ثم هناك برنامج رئيس الجمهورية للنشر، وهذا أيضا يساعد في تطوير وتحسين أداء منظومة النشر في بلادنا، لهذا لاحظنا أن عدد الناشرين بعدما كان مطلع الثمانينيات يعد على الأصابع، صار الآن بالمئات، حيث نسجل ما لا يقل عن 550 ناشر محترف في الجزائر.
إن المسألة لا تتوقف عند وجود ناشر ولا نشر كتاب أو مطبوعة، فالترويج لما ينشر قد يكون ذا أهمية تتجاوز نشر الكتاب الذي هو جهد فكري ثقافي وثمرة سنوات من الكتابة والإبداع والسهر.. لكن الناشرين الجزائريين يفتقرون إلى ثقافة الترويج والماركتينغ التي ما زالت غائبة عن منظومة النشر في بلادنا وفي كثير من المجالات، إذن يجب أن يولى الاهتمام الأساس إلى التعريف والترويج للأعمال التي تصدر.. بعض الأعمال تصدر وتولد ميتة، ولا يسمع بها أحد.. مثلا، في إطار تلمسان أو الجزائر عاصمة الثقافة العربية، ظهر على الأقل 1500 عنوان جديد، لكن كم هي الأعمال التي قدّمت وعُرف أصحابها؟ ما عدا بعض الناشرين الذي يجتهدون في التعريف بإصداراتهم، فإن العبء يقع على المؤلف نفسه الذي يسعى إلى تسويق عمله والتعريف به.. على الناشرين أن لا يفكروا في أن يكسبوا في الطبعة الأولى، الطبعة الأولى هي للتعريف بالمنتوج، والثانية لكسب وتحقيق الربح المادي.
من جهة أخرى، يخطئ من يقول إن الجزائري لا يقرأ.. الجزائري، على خلاف الأوروبي، لا يقرأ في الميترو والحافلة والحديقة وفي الفضاءات المفتوحة، بل في الفضاءات المغلقة، كالمنزل أو المكتبة أو الجامعة، حيث لا تراه يقرأ، أما في الفضاءات المفتوحة فتجده يقرأ الصحيفة، فهذا الشعب مسيّس بشكل لا يمكن تصوّره.. وبالتالي فالكتاب بدأ يأخذ مكانه في حياة الجزائري، والناشرون مطالبون بأن يفكروا أكثر في أن يمتلكوا حسّ المهنية والاحترافية في التعامل مع الكتاب.
ثم هناك حلقة أساسية أخرى هي المكتبيون.. هناك المكتبي وهناك بائع الكتاب: الأول إنسان مثقف، وحينما تدخل المكتبة تسأله مباشرة ويقدم لك النصح والمشورة.. المكتبي ثقافة، أما الآن فهو بائع كتب، كمن يبيع أي سلعة أخرى.. لذا يجب أن تكون هناك ثقافة حقيقية للكتاب، لدى الناشر، لدى المكتبي، لدى المتلقي والمستهلك، أي كل حلقات سلسلة الكتاب.

خلق ثقافة التسويق ضرورة حتمية

- على ذكر سلسلة الكتاب، ذكرتم منذ قليل مسألة الترويج، والملاحظ أن الكاتب الذي يريد الترويج لأعماله يلجأ أحيانا إلى خارج الجزائر.. عديدة هي الأسماء التي رُوّج لها من الخارج أمثال كمال داود مؤخرا أو أحلام مستغانمي قبل ذلك.. هل يتوجب على الكاتب الجزائري أن يصير معروفا في الخارج لكي يقبل عليه القرّاء ويتهافت عليه الناشرون؟
* نحن لا نحسد من يحصل على سمعة وشعبية واسعة في الخارج بل هو مكسب للجزائر، شأنه شأن الرياضيين الذي يذهبون إلى الخارج ليحصلوا على فرص النجاح، فرص يجب أن نثمّنها في النهاية.. لكن هذا الأمر يجب أن يقرأه الناشر وليس المؤلف، فهو المطالب بأن يثمّن جهد الكاتب الذي لجأ إليه، وأن يخلق ثقافة التسويق اللازمة.. من المهمّ جدا أن نمتلك نقابة وطنية فاعلة في الحياة الثقافية للناشرين، ونأمل أن يتم تجاوز ما نراه من صراعات مستمرة، وأن يشكل الناشرون تنظيما نقابيا يدافع عنهم وعن الكتاب وعن حق المواطن في الحصول على كتاب جزائري لائق.. ثم الأهم هو الانتقال إلى وراء الحدود، لماذا لا يصل الناشر الجزائري إلى المكتبات العربية؟ لماذا لا يقرأ لنا التونسي والسوري والمصري والفرنسي والبلجيكي؟ يجب أن تضبط استراتيجية للانتقال بالكتاب الجزائري لما وراء الحدود.. هذه المسألة حيوية، فلا ينبغي أن نكتفي فقط بالمشاركة الرمزية في بعض معارض الكتاب، الكاتب الجزائري مطلوب، شأنه شأن اللاعب الجزائري، لأن الجزائري مثلما هو موهوب في القدم موهوب في القلم.. لكن هذه الصراعات الموجودة في نقابة الناشرين تؤثر بشكل كبير على ضبط استراتيجية للانتقال.. ثم أعتقد أن الدولة عندما تقدم لها مشروعا قويا فهي تأخذ به، لأننا الآن في مرحلة تسويق وتثمين كل ما هو إيجابي في الجزائر: على الصعيد الدبلوماسي نسوّق ثقافة الأمن للجيران، فلم لا نسوّق، على الصعيد الثقافي، النجاحات التي تحققها السينما الجزائرية، الكتّاب الجزائريون والمثقفون الجزائريون؟
لدينا مؤسسة اسمها الوكالة الوطنية للإشعاع الثقافي، يفترض أن لا يكون دورها المجيء بالثقافة من الخارج بل العكس، فهذا ما نريده: أن نعرّف العالم بما تنتجه جزائر الاستقلال.
- ذكرنا دُور النشر العربية وكذا عاملي الأمن والاستقرار.. كثير من الناشرين العرب الذين التقيناهم يركزون على استقرار الجزائر مقارنة بدول عربية عُرفت سابقا بإنتاجها الثقافي الغزير، ولكنها عاشت وتعيش وضعا من اللااستقرار.. ألا يضع هذا الأمر ثقلا ومسؤولية على كاهل الجزائر بحيث تكون ملاذا ومتنفسا للثقافة العربية ككل وليس فقط للثقافة الجزائرية أو المغاربية؟
* هذا صحيح.. لقد كانت الجزائر كعبة الثوار وملجأ الأحرار والمضطهدين في الستينيات والسبعينيات، نيلسون مانديلا نشأ هنا والجزائر في عزّ ثورتها، أسماء كبيرة مرّت على هذا البلد لأنه جُبل على المقاومة ودعم كل ما يرمز للحرية والكبرياء، وهي ثقافة الشعب الجزائري.. هذا الأخير دفع فاتورة كبيرة في سبيل أن ينال استقراره ويحافظ على استقلاله، سواء من حيث التضحيات التي بُذلت في عديد الفترات خاصة منها فترة التسعينيات، أو من حيث الحلول التي قدّمت والمتجسدة في قانوني الوئام المدني والمصالحة الوطنية والتي مكّنت هذا الشعب من استعادة استقراره وأمنه، والمسألة ليست في استعادة الاستقرار وإنما في المحافظة عليه وهذا هو الأهم، ويتأتى ذلك عن طريق الوعي بالتحديات التي تواجه الجزائر في محيطها، لهذا فإن الجزائر تجتهد بصورة لا يختلف حولها اثنان من خلال حكمة رئيس الجمهورية ومختلف المؤسسات التي تذهب في اتجاه دعم استقرار الدول المجاورة.. الأمن هو الأساس وقيمته لا تقدر بثمن، يمكنك أن تمتلك ما شئت من حرية ولكن إن افتقدت الأمن فالحرية لن تجدي شيئا.. ولأن الجزائريين يعرفون هذا فهم لم يبخلوا على الجيران بأن يمكنوهم من الوصفات التي تعيد إليهم شيئا من الثقة والاستقرار والأمان، والحمد لله هناك بشائر تأتي من الجهات التي تدعمها الجزائر وتساعدها، وهذا ينقلنا إلى المستويات الأخرى في مجالات التنمية والثقافة والاقتصاد، كل هذا يمكن أن يفيد الغير إن كان متناسبا وخصوصيات مجتمعاتهم، أو أنه يمكن أن يشكل تلاقحا بين هذه التجربة وتلك.. مثلا صالون الكتاب الجزائري هو الأفضل في الصالونات العربية مجتمعة وهذا لسببين: الأول هو أن عديد البلدان يعيش أزمات وبالتالي لا تقيم معارض، والثاني هو كونه مربحا لدور النشر التي تقول إن المجتمع الذي اكتشفنا محبته للكتاب وشغفه به هو المجتمع الجزائري، وأعداد دور النشر المشاركة يتزايد سنة بعد أخرى، وفي الطبعة الأخيرة سجّل مشاركة أكثر من 900 دار نشر، وهذا الشيء يعطي صورة الجزائر التي تعنى بالثقافة والإبداع والكتاب، ومجتمع كهذا هو مجتمع معاد للعنف والإرهاب والفكر المتحجّر. إذن هذه الصورة التي تظهر بها الجزائر، وهي الصورة التي نحن بحاجة لأن نقدمها للعالم.

العربية خزان لغوي في تاريخ العالم ولن تصاب بالعجز

- يجرؤ البعض على القول إن اللغة العربية ليست لغة علوم، أو على الأقل ليس كما السابق، كوننا لم نعد ننتج علوما بهذه اللغة.. هل يمكن أن نتحدث عن تراجع الاهتمام بالعربية كلغة علمية حتى لا نقول اختفاءها؟
* أقل ما يقال عن صاحب هذا الكلام هو أنه جاهل، جاهل لتاريخ العربية، ولمساهمة الحضارة العربية في خدمة الإنسانية، والعيب لم يكن أبدا لا في العربية ولا في أي لغة كانت، لنعطي رقما قد يكون مفاجئا للبعض: اللغة العبرية عندما انطلقت في عام 1948 بالكيان الصهيوني، فإنها لم تكن تتوفر على أكثر من 5600 كلمة، دون بنية نحوية، فاعتمدوا البنية اللغوية العربية لتطوير الكيان اللغوي للعبرية، نظرا لنقاط التشابه بين اللغتين فهما تكتبان من اليمين إلى اليسار، وتتشابهان في عدد من الكلمات.. العبرية بـ5600 كلمة، بينما نجد في العربية 6000 كلمة مرادفة للجمل، بمعنى أن الجمل لوحده أكبر من لغة بأكملها.. فالعربية تتجاوز العبرية بمسمى لحيوان واحد، وهذا يعني أن اللغة العربية بـ12 مليون و300 ألف كلمة هي أكبر خزان لغوي في تاريخ العالم، يمكن داخل هذا الخزان أن تجتهد وتنتج وتشتق ما شئت من كلمات لكل المسمّيات، فالعربية ليست عاجزة، وإنما العجز في المجتمعات لما تكون عاجزة عن تقديم معرفة، اللغة تصاب بحالة التراوح في المكان إذا لم يكن المجتمع قادرا على إنتاج معرفة، الكورية تنتج معرفة لأن المجتمع الكوري اعتمد التعليم الناجح ووضع استراتيجية لتطوير نفسه، وهذا البلد الذي لا يملك نفطا بحث عن بديل، وكان هذا البديل اقتصاد المعرفة، بتنمية التعليم وتطوير الجامعة وتكييفها مع المحيط، وجعلها قادرة على إنتاج نخب لتطوير المجتمع، إذن فالمسألة ليست في اللغة.
لنفترض جدلا أن من يقول إن اللغة العربية عاجزة مصيب في قوله، ولنسأله ماذا قدّم هو لهذه اللغة؟ ثم ماذا قدّمت اللغات التي يتباهى بها البعض؟ هل نتحدث عن واقع الفرنسية مثلا؟ هي تعبة أمام اللغات الأخرى، وفي 2013 صادق البرلمان الفرنسي على تعديل في قانون 4 أوت 1994 المعروف بـLa loi Toubon” والخاص بتعميم استعمال اللغة الفرنسية، حيث اكتشفوا بعد 20 سنة بأن الفرنسية عاجزة في الحقل العلمي، وأن الباحثين الفرنسيين يطلبون التصريح لهم بتوظيف الإنجليزية لأنها لغة البحث العلمي الآن، وتمت المصادقة على ذلك. إذن مسألة اللغة تختلف حسب حيوية كل بلد، فالعبرية التي أعطينا المثال بها هي لغة معهد وايزمان للذرّة، وإيران الآن بلد يتطور بسرعة البرق ويتفاعل مع المستجدات العلمية، ويمنح كل المسميات بالفارسية وهي لغة وطنية وحيدة في العالم، ويتكلمها شعب واحد، على عكس العربية، ولكن هذا لم يمنعها من أن تكون لغة تقنية وبحث.
^ يفرّق كُثرٌ عن قصد أو غير قصد، بين العلوم الإنسانية والعلوم الدقيقة أو التجريبية، عندما يتحدّثون عن الكتاب العلمي.. هل يجوز هذا التمييز؟ وهل صحيح أن الترجمة في مجال العلوم الإنسانية قد تكون أصعب كون المفهوم نشأ في بيئة غير بيئة اللغة المترجم إليها؟
* لا يمكن الاستغناء عن اللغة في أي علم كان، فعندما ندرّس الرياضيات فنحن بحاجة إلى لغة تمتلك القدرة على إفهام المتلقي لنظرية معينة أو حلّ معادلة ما.. إذن فاللغة أساسية، ومن يمتلك ناصيتها فقد نجح في وضع منهج في التبليغ وإيصال الرسالة. هناك عالم فرنسي “روجي ريوس” أوجد ما أسماه “اللغة الذهنية”، ويقول إن هناك لغة ذهنية مبنية على الصورة، ومن يشاهد الصورة فلا حاجة لأن يعبّر بالكلمات، ولكن أول ما يبدأ الإنسان وهو طفل بتعلمه فهو اللغة وقواعدها ومفرداتها.
أما ما يتعلّق بالمصطلح، فإن الذي يصنع شيئا يمنحه المسمى الذي يريد، وإذا صنع الكوري جهاز هاتف نقّال، فله الحق في أن يمنح المسمى ويجب احترامه لأنه منتوجه وثمرة ابتكاره. إذا أردت أن تجتهد خارج هذا الإطار وأن تمنح مقابلا بلغتك لهذا المنتوج المبتكر فهذه إضافة لك، ولكن هناك حدود لا يمكن تجاوزها، لأن الذي ابتكر الجهاز هو الذي ينشئ له لغة، ومثلما يستهلك المستهلك هذا الجهاز، فإنه يستهلك معه لغة مضمرة وضمنية. سنعيش مستقبلا بما يسمى اللغة التقنية المفرطة، لأن هذه الثورة الرقمية تنتج كمّا هائلا من المنتجات التكنولوجية فتمنحها حينئذ لغة جديدة هي لغة الترميز أو لغة الكود، لغة أرقام وحروف وتشكيلات جديدة تبدو هجينة بالنسبة إلينا ولكنها مسميات علمية، وهذا راجع إلى كون التكنولوجيا أسرع من اللغة.

لغة المجتمع ثمرة تراكم اجتماعي

- لاحظنا مؤخرا أن استعمال اللغة الثالثة أو “الدارجة” بات يعرف تزايدا مطّردا في الإعلام، وانتقل مؤخرا حتى إلى الكتاب.. ألا يساهم ذلك في تقليل التعامل باللغة العربية الكلاسيكية، وينتج لنا كتابا “هجينا”؟
* أنا عندي رأي مخالف.. في أي مجتمع مهما كان تجد لغتين: لغة المجتمع ولغة المعرفة. أما لغة المجتمع فهي ثمرة تراكم اجتماعي وثقافي وتاريخي، هذه اللغة لا تخضع لقواعد سليمة وعلمية، ولكن وجدها أمر طبيعي.. وأما لغة المعرفة فهي تلتزم المعايير السليمة ومحكومة بقواعد ويمكن أن تواصل بها مع غيري في العلم، إذ لا ندرّس بالدارجة ولا ننتج كتبا بها، وإلا فسيعتبر كل الناس مثقفين وشعراء وكتابا، لأننا أسقطتنا الجانب الذي يمكنني من نقل المعرفة للغير، مثلا يمكن لسوري أن يقرأ كتابا جزائريا بشكل عادي، ولكن هل سيفهمه إذا كتبته بالدارجة؟ لن يجرؤ أحد على قراءة رواية بالعامية الجزائرية إلا إذا كان جزائريا. إذن فالفصل بين لغة الحياة اليومية ولغة المعرفة التي هي لغة العلم والإعلام والسياسة، فهذه الأخيرة هي التي تحفظ لأي لغة كانت قيمتها في القدرة على الوصول إلى الآخر.
لغات الكريول، وهي اللغات التي تظهر في بعض الجزر وبقايا المستعمرات، أين يأتون بلغة المستعمر ويخلطونها بلغتهم الأصلية وينتجون من الخليط لغة ثالثة هجينة، إلا أن العربية لغة “سجينة”، لأنها تخضع لقواعد تقيدها وتضبطها، ولا يجوز التخلي عنها.
- بماذا تتنبأون لصناعة الكتاب سواءً في الجزائر أو في شكلها العام؟
* لقد دخلنا مرحلة جديدة تتجسّد في النشر الإلكتروني، والآن هناك كتّاب ينشرون مباشرة إلكترونيا، ولا يلجأون للناشرين ويتفادون العديد من مراحل النشر التقليدي، والعالم قد دخل في الثقافة الرقمية والإلكترونية، ولكن لا يمكن الاستغناء عن الكتاب الورقي الذي له قيمته الثقافية والتاريخية، وله طعمه وجاذبيته، الكتاب الورقي يمكن أخذه معنا أينما نريد، ولكن الأمر يختلف مع الكتاب الإلكتروني الذي يستلزم توفر الطاقة حينما نريد قراءته، إلا أن الكتاب الرقمي يسمح بأن نتصرف فيه وهو من مميزاته. ولكن تبقى رائحة الكتاب الورقي هي التي أنتجت هذا الكمّ من العقول على امتداد مئات السنين، ما يدفع الإنسانية تبقى مدينة للذي اكتشف الورق، والحبر، والمطبعة، ما جعل الكتاب ينتشر بصورة أوسع..
بالرجوع إلى الجزائر، فإن هناك ناشرين يقدّمون الكتاب في حلّة جيدة، ويهتمون بصناعته وبشكله، بعضهم لم يتطور ويبقى هدفه الربح السريع، لكن الذين يحترمون جهد الآخرين وفكر المؤلف يصدرون الكتاب دائما في طبعة جيدة وحلّة مثيرة للبهجة.
- هل من كلمة لجريدة “الشعب”؟
*“الشعب” جريدتي وبيتي الأول في دخولي عالم الصحافة، أحيّي قرّاءها وأتمنى دائما أن تواصل على نسق خدمة الجزائر وخدمة الثقافة.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19450

العدد 19450

السبت 20 أفريل 2024