“السّكاكين الصدئة”..

تقنية القصة القصيرة جدا وجمال التّكثيف

بقلم الدكتور حبيب مونسي

«الشعب” اختار الدكتور مونسي أن يلج إلى عالم الفقيد حسين فيلالي من خلال زاوية اختارها أن تكون من نافذة أول مجموعة قصصية صدرت له سنة 1990 عن رابطة إبداع الثقافية الوطنية التي كان فيلالي رئيس مكتبها الولائي، نظرا لأهمية المجموعة فإن الدكتور مونسي أراد أن يتناول توظيف الخير والشر في السكاكين الصدئة التي اختارها القاص فيلالي اولى باكوراته.
قد يكتب الآخرون عن “حسين فيلالي” رحمه الله، فيخوضون في محامده وأخلاقه، ويضربون في ثنايا سيرته ومعاملاته، وربما ربطوا بين نفسيته والصحراء العميقة وأخلاقها، وما تبثه في نفس ساكنيها من هدوء وأريحية، وما تبنيه في طباعهم من آيات البشاشة وعبارات الترحاب..غير أنّني وأنا أقبل على حسين هذه المرة تستوقفني مسألة من مسائل الأدب التي طالما أرّقتني وخضت من أجلها صراعا مريرا مع من ينكرها أو يجحد فضلها..ألا وهي وظيفة الأدب ورسالته. هذه الوظيفة التي قُرنت مع الأسف الشديد بمسألة أثارها اليسار السياسي فيما يعرف بقضية الالتزام في الأدب والفن، ولم يكن يقصد منها يومها، إلا الالتزام بالخط الأيديولوجي الذي سطرته الشيوعية باعتبارها رؤية للعالم ينهجها التفكير اليساري في كل منجزاته الفكرية والأدبية. ولم يكن الالتزام يشير لا من قريب أو بعيد إلى الالتزام الأخلاقي أو الإنساني في الأدب.
كما أنّ المناقشات التي كانت تدور هنا وهناك كانت تخرج من دائرة اهتمامها كل حديث عن الأخلاق، وكأنها هي السبب في تردي الآداب واضمحلال محتوياتها، وأن الأدب لابد وأن يقتحم مناطق الشر المظلمة، وأن يخوض في مستنقعاتها لكي يكون أدبا إشكاليا، وأن الحديث عن الخير من قبيل الوعظ الذي لن يرق أبدا إلى إيجاد العامل الدرامي الذي يطبع الشر في استحواذه على الإنسان في أقواله وأفعاله. وقد جنح الأدب الإسلامي في سنوات الثمانين، إلى أن يجعل من ساحته فضاء للرؤية التي تناقض الطرح الحداثي، من خلال تقديم نصوص تمجد الخير وتسعى إلى تثبيته سلوكا في حياة الناس.
غير أن التطرف في الاتجاهين أبعد الأدب عن حقيقته، حينما سار به الاتجاه الأول إلى الشر ونبذ الأخلاق، وأغرق الثاني صفحاته في لغة الوعظ،واختفى الأثر الأدبي بينهما في وسط لا يعرف كيف يكتب نصه المنتظر..هنا أتذكّر حسين فيلالي في نصه “السّكاكين الصّدئة”، الذي جعله عنوانا لمجموعته القصصية حينما قدّم لنا نصا، يخاتلنا منذ الوهلة الأولى فيجعلنا إزاء موقف يتكرر يوميا في شوارع المدينة وأسواقها ومواقف حافلاتها. موقف يعرض في بساطته طالبي اللذة، الذين تعوّدوا الاصطياد في مثل هذه الأماكن لبائعات الهوى، اللواتي يرتدن مثل هذه الأماكن.
ويقدم لنا مشهدا ألفناه لكثير من الرجال وهم يراودون النساء بلباسهم ومفاتيح سياراتهم وجيوبهم المنتفخة ووعودهم، ثم يسير بنا في شوارع المدينة إلى المكان الذي نظن أن اللقاء سيتم فيه، وأننا سنقرأ نصا يحدثنا عما يفعله الرجال بالنساء أو النساء بالرجال مقابل بضعة أوراق نقدية، غير أن النص ينعطف بنا سريعا من خلال تأثيث في غاية اللباقة حينما تتقدم المرأة من فتاة رثة الأثواب وتمسح على رأسها قائلة أنّها ابنتها من رجل..ليته كان ميتا..فتكون اليتيمة، ولكنه رجل تعود أن يرتع في أعراض الناس..”وبصوت مختنق أجابت - كان يسرق أعراض الناس..أحسست بفتور عام يجتاح أعضائي..تراءت لي زوجتي وهي عارية على قارعة الطريق تبدي مفاتنها في دلال كمومس تستدرج الناس إلى مضجعي..فتمزق عرضي بنفس السكاكين الصدئة التي أذبح بها أعراض الناس الآخرين...وانبعث من أعماقي صوت دفين “كما تدين تدان” وخرجت أجرّ جثتي تصلي ظهري سياط الندم...”.
إنّ انعطاف النص بهذه الطريقة يحدث الدهشة، كما يحدث الصدمة غير المتوقعة والتي تجعل من القصة خطابا عالي الوتيرة، يرتفع فجأة في عالم الأخلاق ليغوص عميقا في أعماق الذات البشرية مخالطا فطرتها التي تعاف الأكل من أعراض الناس. تلك المومس لم تكن سيئة بطبعها، ولم تكن تجهل أو تتجاهل فداحة أفعالها، وإنما لجأت إلى ذلك الفعل لأنها تريد منه خصلتين: الأولى إعالة فتاتها، والثانية معاقبة زوجها بعين ما يفعل وهي كارهة لفعلتها في الآن ذاته.
لقد عرف حسين رحمه الله كيف يجري السرد في الحادث البسيط المألوف، ليرتفع به في درجات الخطاب الهادف الذي يريد تحقيق وظيفة من أهم وظائف السرد، ألا وهي وظيفة التبليغ..لم تتجاوز قصته القصيرة جدا الصفحة ونصف الصفحة، ولكنها من الكثافة ما يمكن لمحلّلها إذا شاء ربط إيحاءاتها بالواقع الاجتماعي والنفسي والتربوي للمجتمع، وما يتصل من وراء ذلك بالواقع السياسي، ما يمكنه من تحرير المئات من الصفحات، لأن القصة القصيرة جدا تكتب على هيئة القصيدة وهي تجنح إلى التكثيف والإشارة، ومن ثم يكون استنطاقها من هذا الوجه حافلا بالتأويلات التي تذهب بها في كل اتجاه..وكلما كان النص كثيفا كانت إشاراته قوية تشع وهي في حاجة إلى قراءة إشعاعية تتخطى حدود السرد إلى تفسير الأسباب الكامنة وراء الأفعال.
قصة قصيرة تغنيك عن قراءة رواية تنتشر على مئات من الصفحات، وهي تهوم في نرجسية مريضة ليس لها إلا عالم الاعترافات الرطيبة لتكتب بها جُملها وتطرز بها عباراتها..فشكرا لك حسين أيّها القاص البهي ورحمة الله عليك.
 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024