الباحث عبد الكريم أوزغلة حول حيا ة الكاتب ميغل دي ثيربانتس

اختيار اليونسكو لصاحب رائعة دونكيشوت لـه أكثر من دلالـة

الآداب اللاتينية في الأدب الجزائر يتناص وسير وخلفيات تاريخية

يتحدث الأستاذ عبد الكريم أوزغلة الباحث في كتابات الروائي العالمي ميغل دي ثيربانس عن أهم المحطات التي صنعت منه كاتبا عالميا، خاصة بعد عملية الأسر التي تعرض لها في العاصمة والثانية بوهران، وبرّر الباحث اوزغلة ذلك من خلال عرضه، معظم مؤرخي سيرة ثيربانتس حادثة أسره وإقامته في الجزائر مدة خمس سنوات ومحاولات فراره بإعجاب كبير لا يخفى فيه تأثرهم بما كتبه الأسير نفسه عن تجربته الجزائرية في أعماله الأدبية المختلفة.

والبداية في أوديسية أسر ميغل دي ثيربانتس حظ عاثر؛ حيث أنه خلافا لما كان يؤمله من انخراط في حملة جديدة بعد معركة ليبانت (1571).
 حصل في 18 / 06 / 1575 على إجازته من الدون خوان دوتريش قائد أسطول «التحالف المسيحي»، فقفل راجعا على متن الغاليرة «صول» (الشمس)، إلى بلاده، حاملا رسائل من الدون كارلوس دي أراغون نائب ملك صقلية، والدون خوان دوتريش إلى ملك إسبانيا فليب الثاني، تحفل بالإطراء بشخصه؛ حيث يقترح الدون دوتريش تكليف ثيربانتس بقيادة إحدى الحملات في اتجاه إيطاليا. غير أن قدر ثيربانتس وشقيقه ومن معهما سار في اتجاه هو غير ما كانوا يأملون، والرسائل التي كان ثيربانتس يعلق عليها آماله من أجل ترقى ذرى المجد، سقطت بين يدي الرايس مامي أرنوط آسره في خريف 1575، الشيء الذي حمله على الاعتقاد بأن سبيّه من عائلة ذات شهرة وجاه، ومن ثم فالفرصة مواتية له ليجني مقابل تحرير الجندي الأسير فدية معتبرة. وهو ما «جعل أسره شاقا وحراسته صارمة». وخلال فترة أسر ثيربانتس وشقيقه ومن معهما، تمكن الأخوان من إيصال خبر وقوعهما في الأسر إلى أهليهما في إسبانيا. الأمر الذي حثّ والدهما على مباشرة مشوار من المساعي كان أوله بذل ثروته لافتداء ولديه. غير أن المبلغ الذي جمعه لم يكف إلا لافتداء وتحرير الأخ الأكبر رودريغو فقط في 1577.
وقد أظهر ميغل دي ثيربانتس إزاء هذا المصير التراجيدي نوعا من المرونة والتكيّف. وذلك بعقد علاقات مختلفة مع الأسرى منحته ثقة الجميع ماعدا من كان يبيّت له أمرا، والتصميم على إيجاد مخرج مشرف من الورطة التي وقع فيها، أو البقاء متشبثا ببصيص الأمل الذي يسكنه في استعاده حريته. فعمل ما وسعه في سبيل ذلك، مستغلا كل الفرص المتاحة أمامه، خاصة منها فرص نصب المؤامرات التي تفنن في حبكها، إلا أنه لم يكتب لأي منها النجاح المؤمّل.

محاولات الاسر وتفاصيل تعيد المشهد من جديد

يذكر مترجمو سيرة ميغل دي ثيربانتس أربع خطط حبكها ونفذها رفقة أصفيائه من النصارى الإسبان هي:

محاولة أولى:

 وقعت في صيف العام 1576، حاول فيها رفقة شقيقه رودريغو وعدد من رفقائهما الأسرى الفرار إلى وهران للالتحاق بالحامية الإسبانية المتمركزة هناك منذ احتلال المدينة في 1509، غير أنها باءت بالفشل وكلفت الأديب الإسباني معاملة سيئة من قبل سيده الذي قام بتشديد حجزه بمزيد من الحرس والأغلال». فلم يبق إذن أمام ثيربانتس وشقيقه إلا أن يخبرا ذويهما في إسبانيا عن طريق أحد المتحررين حديثا بتفاصيل محنتهما وحاجتهما إلى المال لافتداء نفسيهما. وهو ما تحقق لرودريغو فقط بسبب عدم كفاية المبلغ المجموع للعملية. وهكذا كتب على ميغل أن يرجئ تحريره وينتظر فديته في فرصة أخرى.
المحاولة الثانية
تعرف هذه المحاولة باسم «مؤامرة المغارة». وهي أكثر مؤامرات ميغل دي ثيربانتس الأربع إتقانا من أجل الفرار من أسره في الجزائر، كما تعد من أشهرها لدى مترجمي حياة أديب إسبانيا الأول.
وتتلخص تفاصيلها، كما يرويها شهود عايشوها في العريضة الرسمية المنجزة لصالح ثيربانتس في 1580، في أن ثيربانتس أشار على أربعة عشر (14) مسيحيا من ضمن أهم من كانوا أسرى في الجزائر للاختباء داخل مغارة كان قد علم بوجودها فيما سبق خارج مدينة الجزائر؛ حيث مكث بعض من المسيحيين المذكورين مدة ستة أشهر، بينما مكث آخرون بها أقل من ذلك. وخلال ذلك كله سهر ميغل دي ثيربانتس على تموينهم وعلى أن يعنى أشخاص آخرون بتزويدهم بما يحتاجون إليه. فقد كان حرص ثيربانتس شديدا على أن يرسل إليهم زادهم بانتظام، فكان بذلك يعرّض نفسه لخطر كبير على حياته حال انكشاف أمره بأن يجلد أو يحرق حيا. وحينما لم يتبق سوى ثمانية أيام عن الموعد الذي كان من المفروض أن تأتي فيه الفرقاطة التي أوصى شقيقه المحرّر في 1577 بالتكفل بإرسالها لتدبير الفرار على متنها، انضمّ ميغل دي ثيربانتس بجماعة المسيحيين داخل المغارة.
وحينما حضرت الفرقاطة بالفعل، وعلى النحو الذي أمر به ميغل دي ثيربانتس، وفي الموعد الذي ضربه لها، مكثت ليلة غير بعيد من المكان الذي استقروا به. غير أن عملية الفرار لم تكلّل بالنجاح بسبب «افتقاد البحارة للشجاعة؛ حيث لم يحاولوا القفز إلى اليابسة لإعطاء الإشارة لمن كانوا مختبئين في المغارة».
لم يمر مشروع ثيربانتس دون أن تلفت انتباه من كان يضمر له أمرا، خاصة المدعو ألدورادور من مليلة، الذي علم بالعملية فوشى بهم إلى سلطان الجزائر حسن فنيزيانو، فكشف له عمن كانوا في المغارة موضحا له بأن المدعو ميغل دي ثيربانتس هو من يقف وراء العملية، وهو من دبرها. وهو السبب الذي حدا بالسلطان، في الآخر من سبتمبر من السنة نفسها، للأمر بالقبض على ثيربانتس ورفاقه. وقد تحمل ميغل ثيربانتس وحده تبعات العملية مصرحا للسلطان: «لا يتحمّل أحد من هؤلاء المسيحيين مسؤولية هذه العملية كوني أنا وحدي الفاعل، ومن حملهم على القيام بما قاموا به»..
«وهو السبب الذي حدا بالسلطان، في الآخر من سبتمبر من السنة نفسها، للأمر بالقبض على ثيربانتس ورفاقه. وقد تحمل ميغل ثيربانتس وحده تبعات العملية مصرحا للسلطان»
غير أن السلطان، وعوضا من أن يأمر بإعدام ثيربانتس على ما جرى عليه عرف المعاملة في مثل هذه الحال، سعى لشرائه من سيده دالي مامي حتى كان له ذلك، إذ دفع له 500 أوقية مقابلا له، بعد أن استبد به الطمع في أن يحصل من أهله على فدية تزيد قيمتها على 1000 أوقية مقابل تحرير «الكباليرو». لقد انتهت محاولة فرار ثيربانتس الثانية به مملوكا بين يدي السلطان حسن باشا فينيزيانو.
ويفيد إميل شال بأن سلطان الجزائر أمر، بعد شرائه، بحبسه خمسة أشهر لا يرى فيها النور من شهر أكتوبر 1577 إلى فيفري 1578.
تلت هذه المحاولة محاولتان أخريان تمثلت أولاها في إرسال أحد الموريين إلى وهران يحمل رسالة إلى السيد المركيز دون مارتان دي كوردوبا حاكم وهران وقائد حاميتها، ولشخصيات مهمة أخرى، من أجل أن يرسلوا إليهم بعض الجواسيس والأشخاص الثقاة الذين يقصدون الجزائر مع الموري المذكور، فيأخذونه ومعه ثلاثه آخرون من أصحاب الجاه والفرسان الذين يحتفظ بهم السلطان في سجنه...» لكن الرسول الموري أوقف عند أبواب وهران وضبطت بحوزته الرسائل فاقتيد إلى مدينة الجزائر لتسليمه إلى حسن باشا الذي قام فور رؤية الرسائل وتوقيع ثيربانتس عليها، بخوزقة الموري. أما بالنسبة إلى مصير ثيربانتس، فقد أمر بأن يجلد ألفي جلدة بالعصا. غير أنه نجا من تنفيذ العقوبة في حقه. «ذلك أن أحد المرتدين الإسبان ويدعى: مراتو راييز (مراد رايس)، وهو من أصدقاء السلطان، تدخل وحال دون كيل ألفي جلدة له».
أما المحاولة الأخيرة فجرت وقائعها ابتداء من شهر سبتمبر من العام 1579، وحبكها ثيربانتس بالتواطؤ مع المجاز جيرون الذي صار يدعى عبد الرحمان بعد ارتداده عن المسيحية والتاجر البلنسي أنوفر إكزارك. تواطأ الثلاثة على تمويل شراء فرقاطة ذات 12 مقعدا وتجهيزها لتهريب حوالي الستين فردا من المسيحيين إلى اسبانيا، غير أنه مع إشراف العملية على تمامها وبلوغ ترتيباتها غاية كمالها كشفها لسلطان الجزائر المدعو كايبان أحد المرتدين الفلورانسيين مقابل أوقية واحدة وجرة سمن.
وهكذا ألقى حسن فينيزيانو بثيربانتس في السجن الملحق بقصره الخاص مرة أخرى، مع الأمر بوضعه تحت حراسة مشدّدة. ومكث ثيربانتس خمسة أشهر محبوسا يرزح تحت الأغلال. كل ذلك ريثما يحين موعد إبحار السلطان إلى القسطنطينية ونقله معه إلى هناك، إلى المدينة التي لو قدر له أن ينقل إليها فعلا، لا افتراضيا كما فعل «القبطان الأسير» في رواية دون كيخوته، لما استطاع ربما، استرجاع حريته أبدا.
الفدية
في الوقت الذي بدت فيه كل آفاق التحرّر من قيد الأسر مسدودة أمام ثيربانتس رغم سعيه الدؤوب في سبيل استرداد حريته «التي لا يعادلها شيء على وجه الأرض»، حدث ما لم يكن في الحسبان؛ حيث طلب الباب العالي من سلطان الجزائر حسن باشا فينيزيانو الالتحاق بالقسطنطينية في مهمة عاجلة تاركا كرسي السلطنة لخليفته جعفر باشا؛ في ذلك الوقت الذي كان فيه حسن باشا يستعد لركوب البحر في اتجاه عاصمة الخلافة العثمانية، حل بمرفأ الجزائر وفد إسباني على رأسه السيد فراي خوان جيل للمفاوضة حول تحرير عدد من الأسرى ومن بينهم ثيربانتس الذي كان على وشك الإبحار رفقة سيده الباشا مغلولا في قيوده... ولم تستغرق المفاوضات أكثر من مدة الاتفاق على ترتيبات الفدية وإمهال الإخوة التثليثيين لاستكمال جمع ما قيمته 500 أوقية ذهبية طلبها السلطان مقابل رفع اليد عن السبي «المهم».. هكذا إذن، قبض السلطان المغادر قيمة الفدية، قبل أن يعمد إلى فك آسار السبي في 19 سبتمبر 1580. وبذلك كان لثيربانتس أن ينعم، كما كتب، بـ»إحدى أعظم المباهج التي يمكن تذوقها في هذا العالم، والمتمثلة في أن يعود المرء بعد استعباد طويل سالما معافى إلى موطنه. ذلك أنه لا يوجد على أديم الأرض ما يعادل استعادة الحرية المُضاعة».
دام أسر ميغل دي ثيربانتس في الجزائر إذن، من الـ26 سبتمبر 1575 إلى 19 سبتمبر 1580، وغادر الجزائر عائدا إلى موطنة رفقة الأب فراي خوان جيل ونفر غير قليل من الأسرى المسيحيين المفتدين في 24 أكتوبر 1580.
ومع اجتماع شمل العائلة في 15 ديسمبر 1580 في مدريد، طوي ملف أسر أشهر كاتب في اللغة الإسبانية على الإطلاق في الجزائر، دون أن يطوى ما خلفته تلك التجربة في روحه وما أوحت به إليه من خواطر وألهمته من أدب يستمر خالدا حتى الآن في نظر نقاده في شتى لغات العالم.

 

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024