من خلال شهادة مؤلمة أدلى بها صلاح عبد العاطي، رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني «حشد»، تتكشف لنا تفاصيل واحدة من أكثر الكوارث الإنسانية قسوةً في العصر الحديث. وفي لقاء مطوّل، لم يُخفِ عبد العاطي فزعه ممّا آلت إليه الأوضاع في قطاع غزّة، كاشفًا عن نمط ممنهج من الإبادة، يتجسد لا فقط في القصف والتدمير، بل في ما هو أبطأ وأكثر فتكًا: الجوع، والعطش، وانهيار منظومة الحياة نفسها.
ومنذ أكثر عامين، وقطاع غزّة محاصرٌ من كل الجهات، بعد أن أغلقت سلطات الاحتلال الصهيوني المعابر بشكل كامل، في قرار لا يستند إلى أي مبرر إنساني أو أمني. وما يزيد عن 82 يومًا متتالية لم تدخل فيها شاحنة واحدة، لا مواد غذائية، لا أدوية، لا وقود، لا أدوات نظافة، لا خيام ولا ملابس، بل حتى الحطب مُنع من الدخول. هكذا، بكامل الوعي والتخطيط، يدفع الكيان الصهيوني السكان المدنيين نحو التهلكة، في مخالفة صريحة لكل القوانين الدولية، وفي تحدٍّ فجٍّ لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية.
وليس الأمر مجرد حصار تقليدي، نحن - كما قال عبد العاطي - أمام سياسة ممنهجة لإهلاك الجماعة السكانية الفلسطينية في غزّة. وقد تكشفت هذه النية الصريحة من خلال تجفيف كل سبل البقاء، في سابقة لم تحدث حتى في أكثر الحروب وحشية. الأسعار ارتفعت بشكل جنوني، حتى بلغ سعر كيلو الدقيق سبعين دولارًا. ومع ندرة الخبز، لجأت العائلات إلى أكل ورق الشجر. لكن حتى الورق لم يَسلم، فقد قُضي على 80 بالمائة من الأشجار في القطاع بفعل القصف.
أما المياه، فهي معضلة بحد ذاتها..95 بالمائة من مياه غزّة غير صالحة للاستهلاك البشري، ومحطات التحلية متوقفة لانعدام الوقود. هكذا، يرضع الأطفال مياهًا ملوثة، وتغذي الأمهات أبناءهنَّ بمياه غير صالحة، لأن لا شيء آخر متاح. ومع دخول القطاع مرحلة المجاعة الكارثية، باتت الأمعاء الفارغة تُنذر بانفجار أكبر من الحرب ذاتها. لا نتحدث عن «سوء تغذية» بل عن «انعدام تغذية»، كما وصفها عبد العاطي بدقة، إذ لم يأكل ثلثا السكان شيئًا يُذكر لأيام طويلة، وبعضهم مرّ عليه أسبوع أو أكثر بلا طعام.
وفي قلب هذه المأساة، يقف الطفل الفلسطيني كأكبر الضحايا. أكثر من 260 ألف طفل دون سن الخامسة يعانون من ضعف غذائي حاد، بينهم مئة ألف دون العامين مهددون بالموت، يُعالج منهم 20 ألفًا في مستشفيات شبه منهارة. ليس هذا فحسب، بل بات القطاع يضم أكثر من 67 ألف حالة فقر مدقع تترنح في الشوارع، أطباء يعانون من الهزال، مستشفيات مدمرة بنسبة 84%، ووقود منعدم أدى إلى وفاة عشرات الأطفال بسبب العجز عن تشغيل الحضانات أو أجهزة الإنعاش.
ولا تقتصر الإبادة على الأرقام فقط، بل تمتد إلى الأرحام أيضًا، فـ 55 ألف امرأة حامل يعشن في ظروف لا إنسانية، و160 ألف امرأة مرضعة لا يجدن ما يقدمنه لأطفالهنّ. معدل الإجهاض الشهري تجاوز 300 حالة، ما يعكس انهيارًا خطيرًا في البنية الإنجابية للمجتمع الغزّي. بل الأكثر فداحة، هو أن الكيان الصهيوني نجح في تقليص نسبة المواليد إلى نحو 32 ألفًا، بعدما كانت تصل إلى 59 ألفًا سنويًا. وهذا النزول المفاجئ ليس طبيعيًا؛ بل نتيجة مباشرة لحرب التجويع والإرهاق، ومحاولة خبيثة لكسر الحلقة السكانية الفلسطينية. وإذا أضفنا إلى كل ذلك أن متوسط أعمار الفلسطينيين تراجع إلى 41 سنة للرجال و47 سنة للنساء، فإننا أمام كارثة ديمغرافية تُدبَّر بسبق إصرار وترصّد.
والهروب من الجحيم لم يكن ممكنًا لكثيرين. لكن نحو 200 ألف فلسطيني تم تهجيرهم قسرًا إلى الخارج، أغلبهم جرحى أو مرضى مع ذويهم، هؤلاء وجدوا أنفسهم عالقين في دول الجوار بلا دعم، بلا دخل، وبلا مستقبل، يكملون رحلة التيه الفلسطيني في صورته الجديدة، لا لاجئ سياسي، ولا نازح مدني، بل كائن بشري زائد عن حاجة العالم.
وفي خضم هذا كله، لم تبقَ القطاعات الاقتصادية على قيد الحياة..الزراعة، السياحة، الصيد، الفنادق، وكل مصدر رزق قد تحطم. ولم يُسمح للصيادين بدخول البحر، ومن دخل قُتل أو اعتُقل. إنه اقتصاد بلا حياة، بلا عمل، بلا أمل. 95 بالمائة من سكان غزّة عاطلون عن العمل.
واليوم، يتساءل عبد العاطي بصوت متهدج: «ماذا يقول الأب لابنه حين يصرخ من الجوع؟». مشيرًا إلى أن الناس لم تعد تطلب سوى أبسط الحقوق: لقمة، جرعة ماء، موطئ كرامة. و»هذا ليس صيامًا»، يقول، «بل جوع مهين لا يحتمله بشر».