اللبنة الأولى في إصلاح المجتمع

أهداف الأسرة السّعيدة بين الواقع والمأمول

 إنّ للأسرة أهداف علية في دين الإسلام، وذلك لأن الأسرة هي اللبنة الأولى في أساس وإصلاح المجتمع، لذا فإن للأسرة أهداف وثمار بيّنها لنا العزيز الغفار والنبي المختار - صلى الله عليه وسلم - نذكر منها:
1 - الهدف الديني:
وهو عبادة الله وحده وإنشاء جيل رباني يعبد الرب العلي قال الله تعالى: {مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الذاريات: 5.
 لذا قال العلماء أن تكوين الأسرة امر تعبدي يتعبد المسلم ربه بإنشاء أسرة قائمة على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «النكاح من سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوَّجوا فإني مكاثرٌ بكم الأممَ، ومن كان ذا طَوْلٍ فليَنكِح، ومن لم يجد فعليه بالصيام؛ فإن الصوم له وِجَاء» (ابن ماجه). والله - سبحانه وتعالى - وصف الرسل الذين أرسلهم ومدحهم بأن لهم أزواجًا وذرية في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} الرعد: 38.
كما مدح عبادَه الصالحين وأولياءه بالسؤالِ في الدعاء بأن يَهَب لهم أزواجًا وذرية، تقرُّ بها الأعين بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} الفرقان: 74.
 2 - الهدف الأخلاقي:
ومن أهدف الأسرة تزكية السلوك والأخلاق والبعد عن الرزيلة والانحلال الخلقي، وقد امتدح الله تعالى العفة وحرض عليها وبشر أصحابها بالفلاح {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} المؤمنون: 5، وأرشد إلى ما يعين على ذلك ويسد الذرائع إلى فاحشة الزنى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} النور: 30.
 عن علقمة قال كنت أمشي مع عبد الله بمنى فلقيه عثمان فقام معه يحدثه، فقال له عثمان: يا أبا عبد الرحمن ألا أزوّجك جارية شابة لعلّها تذكرك بعض ما مضى من زمانك، قال: فقال عبد الله لئن قلت ذاك لقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج فإنّه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (البخاري).
 كما حذّر عز وجل حفظا للمجتمع وصيانة للأعراض من إشاعة الفاحشة بالقول أوالفعل أوسوء الظن {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} النور: 19.
والناظر إلى العالم الغربي يرى كيف انحدر الشباب في هوة الرزيلة والشهوة حتى عاشروا الكلاب والحيوانات، فانحطت أخلاقهم وضاعت أنسابهم وقلت أمانتهم.
 3 - الهدف اجتماعي:
والهدف الاجتماعي من تكوين الأسرة هو توثيق عرى المحبة والألفة بين أبناء المجتمع، وهذا من نعم الله تعالى على المسلمين قال الله تعالى مبينا ذلك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات: 13.
 فتقوى روابط المحبة بالمصاهرة وتزداد بالإنجاب والتكاثر قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} الفرقان: 54؛.
 والأسرة تقوم بتربية أولادها على الفضائل الاجتماعية، ويتطبع بها الأفراد كبارًا وصغارًا على أساس المبدأ القرآني؛ قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} المائدة: 2، وخير قدوةٍ في تحقيق هذا الهدف الاجتماعي من تكوين الأسرة هوالرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد تزوَّج بعائشةَ بنتِ أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - وتزوَّج بحفصة بنت عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - وبهذا ارتبط بصاحبَيه الكبيرينِ برابط المصاهرة، فعزَّز الأُخوَّة الإسلامية لهما في الله بالمصاهرة.
 وزوَّج النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته رُقيَّة لعثمان - رضي الله عنه - فلما توفِّيت عَقَد له على شقيقتِها أمِّ كلثوم، وزوَّج ابنته فاطمة - رضي الله عنها - لابن عمِّه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه.
كما أنه يمكن من خلال تحقيقِ الهدف الاجتماعي تكثيرُ الأمة حتى تواجهَ الخطوب بسواعد قوية، وقوى عاملة تستثمرُ خيرات الأرض بكثرة قاهرة، وعقول جبَّارة، والوقوف بجانب بعضهم البعض في مساعدة إخواننا المسلمين.
 4 - الهدف الصحي:
وهو حماية المجتمع من الأمراض الناتجة عن الاتصال المحرم فالأسرة تعمل على تقنين العلاقة بين الرجل وبين المرأة.
فالزواج هو الوسيلة المشروعة التي شرعها العليم الحكيم للاتصال بين الرجل والمرأة، فإذا حاد الإنسان عن فطرة الله التي فطر الناس عليها انتشرت الأمراض وظهرت الأوجاع التي لا يجد الطب لها دواء.
 عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتُليتُم بهنَّ - وأعوذ بالله أن تُدرِكُوهن - لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يُعلِنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم يُنقِصُوا المكيال والميزان إلا أُخِذوا بالسنين وشدَّة المؤونة وجَوْر السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنِعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطَروا، ولم ينقضوا عهدَ الله وعهد رسولِه إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتُهم بكتابِ الله ويتخيَّروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» (ابن ماجه).
إن الأبناء أمانة من أخطر وأعظم الأمانات التي حملها الله تعالى للآباء والأمهات، والله تعالى أمرنا في غير آية من كتابه بحفظ الأمانة وحذرنا من تضييعها فقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا..} النساء: 58.
 وأنت أيها الوالد مطالب أن تقي نفسك وزوجتك وأبنائك نار حر ها شديد وقعرها بعيد ومقامعها من حديد، يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} التحريم: 6.
 عن علي - رضي الله عنه - أنه قال في الآية: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم.
والمراد بالأهل على ما قيل: ما يشمل الزوجة والولد والعبد والأمة.
واستدل بها على أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض وتعليمه لهؤلاء، وأدخل بعضهم الأولاد في الأنفس لأن الولد بعض من أبيه.
 وفي الحديث: «رحم الله رجلاً قال: يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعكم معه في الجنة»، وقيل: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من جهل أهله.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} لتحريم: 6، قال: اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، وأمروا أهليكم بالذكر ينجيكم الله من النار.
 ومن الأمور التي ينبغي على الآباء أن يربوا أبنائهم الصدق في الحديث فالصدق عباد الله مناجاة وإن ظننت أن فيه الهلكة.
عن عبد الله بن عامر - رضي الله عنه - قال: دعتني أمي يومًا - ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا - فقالت: تعالَ أعطِك، فقال لها: «ما أردتِ أن تعطيه؟»، قالت: أردتُ أن أعطيه تمرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إنك لولم تعطِه شيئًا كُتِبَتْ عليك كذبة» (أبو داود).
 عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال لصبي تعال هاك ثم لم يعطه فهي كذبة» (رواه أحمد).
قــــصــــــة
قال الشيخ عبد القادر الجيلاني - رحمه الله - بَنَيْتُ أمري على الصدق، وذلك أني خرجت من مكة إلى بغداد أطلب العلم، فأعطتني أُمِّي أربعين دينارًا، وعاهدتني على الصدق، ولمَّا وصلنا أرض (هَمْدَان) خرج علينا عرب، فأخذوا القافلة، فمرَّ واحد منهم، وقال: ما معك؟ قلت: أربعون دينارًا. فظنَّ أني أهزأ به، فتركني، فرآني رجل آخر، فقال ما معك؟ فأخبرته، فأخذني إلى أميرهم، فسألني فأخبرته، فقال: ما حملك على الصدق؟ قلت: عاهدَتْني أُمِّي على الصدق، فأخاف أن أخون عهدها. فصاح باكيًا، وقال: أنت تخاف أن تخون عهد أُمِّك، وأنا لا أخاف أن أخون عهد الله!! ثم أمر بردِّ ما أخذوه من القافلة، وقال: أنا تائب لله على يديك. فقال مَنْ معه: أنت كبيرنا في قطع الطريق، وأنت اليوم كبيرنا في التوبة، فتابوا جميعًا ببركة الصدق وسببه
قال إسماعيل بن عبيد الله: لما حضرت أبي الوفاة جمع بنيه فقال لهم: يا بَنِي عليكم بتقوى الله، وعليكم بالقرآن فتعاهدوه، وعليكم بالصدق حتى لوقَتَل أحدكم قَتيلاً، ثم سئل عنه أقر به، والله ما كذبت كذبة قط مذ قرأت القرآن.
وهكذا فإنّ الاهتمام بالأسرة وتحقيق أهدافها يعد أمر من الأهمية بمكان ويستحق منا جميعا العمل على تحقيقه حتى ننتج أجيالا صالحة تبني ولا تهدم وتحب ولا تكره وتعاون ولا تخذل.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19432

العدد 19432

الأربعاء 27 مارس 2024
العدد 19431

العدد 19431

الثلاثاء 26 مارس 2024
العدد 19430

العدد 19430

الإثنين 25 مارس 2024
العدد 19429

العدد 19429

الأحد 24 مارس 2024