في فجر الخامس والعشرين من أيار/مايو 2015، تحوَّل شابٌ مسيحي من حارة النصارى في البلدة القديمة بالقدس إلى رمزٍ للثورة الفلسطينية، ليس لأنَّه طعن مستوطِنَين رداً على انتهاكات الاحتلال فحسب، بل لأنَّه حوَّل هويته الدينية إلى جسرٍ يربط بين أبناء الشعب الواحد، مسلمين ومسيحيين، في مواجهة عدّوٍ واحد.
جون قاقيش، الاسم الذي ارتبط بجملةٍ هزَّت محققيه: “أنا مسيحي الديانة، مُسلم الهوى، فلسطيني الهوية، مقدسي ثائر”، لم يكن مجرد شابٍ ثائرٍ ضد الظلم، بل كان تجسيداً لروح القدس التي ترفض الانكسار.
بدأت القصة ليلة اعتقاله، حين اقتحمت قوات الاحتلال منزله في حارة النصارى، وانهال الجنود بالضرب عليه أمام عيني والده وليم، الذي حاول عبثاً إنقاذه بينما كانت والدته خالدة تفقد الوعي من هول المشهد.
لم تكن تلك الليلة مجرد لحظة اعتقال، بل كانت بداية مسيرةٍ طويلة من الألم والمقاومة لعائلةٍ فلسطينيةٍ مسيحيةٍ عريقة، عانت مراراً من سجن أبنائها، بدءاً من اعتقال الأم خالدة وهي حاملٌ في الانتفاضة الأولى، وصولاً إلى جون، الابن الوحيد بين أربع بنات، الذي حمل منذ طفولته هَمَّ القدس وقضيتها.
في غرفة التحقيق، حاول محققو “الشاباك” تفكيك دوافع جون، فسألوه: “لماذا تُنفِّذ عملية طعن وأنت مسيحي؟”، فردَّ دون تردد: “أتريد أن أرى المستوطنين يدنسون الأقصى وأبقى هادئاً؟ تعتدون على المرابطات وتريدون أن نبقى صامتين؟!”
كانت إجابته صدمةً للمحقق، لكنها كشفت عن عمق الانتماء الفلسطيني الذي يتجاوز الدين إلى الهوية الجامعة. لم يكن جون يدافع عن حجرٍ أو مبنى، بل عن كرامة شعبٍ يُهان يومياً تحت نير الاحتلال، سواء في المسجد الأقصى أو كنيسة القيامة، التي شارك هو نفسه في تزيينها بأكاليل الميلاد، تماماً كما ساهم في تنسيق أزقة البلدة القديمة خلال رمضان.
حُكِمَ على جون بالسجن 11 عاماً وغرامةً ماليةً قاسية، بعد محاكمةٍ وصفها والده بأنها “مسرحيةٌ هزلية” طالبت فيها النيابة بعقوبة 20 عاماً..لكن السجن لم يكسر إرادته؛ فخلف القضبان، حوَّل زنزانته إلى جامعةٍ يدرس فيها العلوم السياسية، ويُعلِّم اللغة الإنجليزية للأسرى، بل واجتاز امتحانات الثانوية العامة في زنزانة سجن “جلبوع”.
هكذا، لم يكن جون سجيناً عادياً، بل مُعلِّماً ومناضلاً يُذكِّر العالم بأنَّ الأسير الفلسطيني يخلق من الظلمِ منجماً للإرادة.
عائلة قاقيش، التي تُضيء شجرة الميلاد كل عامٍ بغيابه، تروي قصةً مختلفةً عن “الاحتفال”. الأم خالدة، التي خاضت أربع عملياتٍ قلبيةٍ خلال سنوات اعتقاله، تصف زياراتها له: “أكتفي بالنظر إلى عينيه المليئتين بالفخر...هل سأضمه مرةً أخرى؟”.
أما الأب وليم، الذي يُشارك في الاعتصامات اليومية عند باب الأسباط، فيرى في نضال ابنه امتداداً لصراعٍ وجودي: “الاحتلال لا يفرق بين مسيحي ومسلم...الرصاصة لا تسأل عن دينك”.
اليوم، بعد عشر سنوات على اعتقاله، ما زال جون يقبع في سجن النقب الصحراوي، لكن قصته تحوَّلت إلى نشيدٍ يردده المقدسيون: مسيحيون شاركوا في الدفاع عن الأقصى، ومسلمون أضاءوا شموع الميلاد في حارة النصارى. إنه نموذجٌ للعربي الحر الذي يُذكِّر العالم بأنَّ فلسطين ليست أرضاً للصراعات الدينية، بل وطناً للهوية الجامعة، حيث يُصلي المسيحي من أجل القدس بنفس الحماسة التي يُدافع بها المسلم عن كنيسة القيامة. الحرية لجون قاقيش، ولأكثر من 5000 أسيرٍ فلسطينيٍ يواصلون كتابة ملحمة الصمود خلف القضبان.