في قلبِ النقــب...

صبرُ جواهر ودمعةُ أم أحمد

بقلم: سامي إبراهيم فودة

من رحم النكبة، ومن بين ركام التهجير، وُلد أحمد سعدي هديب صالح في الثالث من ديسمبر عام 1998، في مخيم جباليا للاجئين، يحمل في اسمه إرث بلدة “سمسم” المهجّرة، وفي ملامحه صلابة الذاكرة الفلسطينية.

ترعرع أحمد في شارع “الهوجا”، بين بيوت المخيم المكتظة بالحكايات، ورضع من لبن أمّه معاني الصبر والوفاء، فوالده الشهيد سعدي هديب محمد صالح ارتقى وهو يدافع عن أرضه وشعبه، ليكبر أحمد على عزاء مفتوح، وسقف من حنين لا يُغلق.
ولم يكن الفقد يتوقف في بيت آل صالح...فقد استشهد شقيقاه: محمد، في إحدى جولات القصف الوحشي على غزّة. صالح، الذي انضمّ إلى قافلة الشهداء مدافعًا عن كرامة هذا الوطن.
أما شقيقاه الآخران، فوزي وعبد الله، فهما يقبعان خلف قضبان الاحتلال، يتشاركان ذات الوجع مع أحمد، ويكابدون العتمة ذاتها في زنازين لا تعرف الرحمة. تكوّنت عائلة أحمد من أمّه الصابرة، السيدة عفاف علي أيوب صالح، التي ما زالت تحمل صور أبنائها الشهداء وتخيط بالصبر غطاءً لحزنها الطويل، ومن شقيقاته الأربع: فداء، نداء، حنين، وأحلام، اللواتي حملن على أكتافهن عبء الغياب ووجع التهجير.

الحياة بين التنقل، والتعليم، والصاج

تنقلت العائلة مرارًا داخل غزّة من شارع الهوجا، إلى منطقة العلمي، ثم إلى عزبة بيت حانون، هربًا من القصف، باحثةً عن قليلٍ من الأمان. وهناك، التحق أحمد بمدرسة “أبو حسين” التابعة لوكالة الغوث، ليكمل دراسته الابتدائية وسط ظروف اقتصادية صعبة.
وبعد أن أصبح شابًا، اتجه إلى العمل اليومي، وكان يعمل بائعًا للخبز الصاج في المخيم، يحمل صينية الخبز في الصباح، ويعود بابتسامته المعهودة رغم شقاء اليوم، حاملًا رزقه النظيف كمن يحمل قلبًا مليئًا بالحياة.

الزواج...وبداية حلم بسيط

في الثامن من جوان عام 2021، تزوّج أحمد من ابنة مخيمه، السيدة جواهر فهد فودة، الفتاة التي اختارت أن تبني مع شريك حياتها بيتًا على حافة الحلم، لا يملكان فيه إلا المحبة، ولا يملأ زواياه إلا دفء الصدق. كانت جواهر ترى في أحمد رجلًا يملأ الدنيا أمانًا، وإن لم يملك من الدنيا شيئًا.

الاعتقال..وقصة الغياب الموجع

في صباح الحادي عشر من ديسمبر 2023، داهمت قوات الاحتلال مدرسة “فلسطين” للبنات الواقعة في مخيم جباليا، والتي كانت تؤوي مئات العائلات النازحة. قُبيل الظهر، حاصرت قوات الاحتلال المكان، ثم اقتادت عشرات الشبان، بينهم أحمد سعدي هديب صالح، دون تهمة، دون مذكرة، فقط لأنه فلسطيني.
في ساعات المساء، تم إخراج النساء وعدد محدود من الرجال باتجاه منطقة أبو زتون، بينما بقي أحمد وآخرون رهن الاعتقال، وبدأت رحلة الغياب نحو جهة مجهولة. تجمّعت الأم عفاف والزوجة جواهر عند بوابات الوكالة في جباليا، عيونهن تراقب المدرسة المحاصرة، وقلوبهن تنزف، تهمس كل واحدة منهن: “يا رب…طلع أحمد، رجعه سالم.” أيام طويلة مضت، وسط قلق وحيرة، حتى وصل خبرٌ مفاده أن أحمد موجود في سجن النقب الصحراوي، وقد خضع لتحقيق قاسٍ على يد جنود الاحتلال.
سعت جواهر للتواصل مع مؤسسة الضمير الإنساني ومؤسسة هموكيد، فأكدتا وجوده هناك، بينما نادي الأسير الفلسطيني أبلغها أن أوضاع السجون صعبة للغاية، ولا يسمح للمحامين بزيارة الأسرى. ورغم منع الزيارات، وصلت رسالة شفوية عبر أحد الأسرى المحررين، مفادها: “أنا بخير...طمنوا أمي وجواهر.”

البيت الذي لا يسقط...وإن تهدّم

زوجة الأسير، جواهر، ما زالت تنتظر، ترقب ساعات النهار والليل، وتمسح دموعها بصمت، تنظر إلى صورته المعلقة في البيت وتهمس: “الله يرجّعك يا أحمد...الدار بدونك بردانة.” أما أمه، فما زالت تحضن قميصه، وتُقبّل أسماء أولادها الشهداء في الليالي الباردة، وتقول: “ضلّ أحمد…ما بدي غيره يرجع.”
ولأن الاحتلال لا يعرف الرحمة، اعتقل أيضًا أولاد إخوته: محمد وإبراهيم، امتداد جرحٍ طويل لم يُغلق بعد، ومقاومة مستمرة لأسرة نذرت نفسها لفلسطين. في ختام سطور مقالي...حين يُعتقل الإنسان لأنه لم ينكسر
قصة أحمد ليست استثناءً...هي مرآة تحاكي آلاف الوجوه الغزية، تختصر ملامح الخبز والدم، تعبّر عن شعب لا يركع، وعن نساءٍ صابرات يشعلن دفءَ البيوت رغم البرد.
الحرية لأحمد ولجميع الأسرى.
الكرامة للشهداء.
والصبر للقلوب التي ما زالت تنتظر.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19846

العدد 19846

الإثنين 11 أوث 2025
العدد19845

العدد19845

الأحد 10 أوث 2025
العدد 19844

العدد 19844

السبت 09 أوث 2025
العدد 19843

العدد 19843

الخميس 07 أوث 2025