فـوزي بجائــزة علـي معاشـي..حــدث لا يُنسى
من خلال مجموعته القصصية “شمس في عين الضباب”، استطاع الكاتب عباس عبد الرزاق أن يلفت الانتباه إلى صوته الإبداعي المتفرّد، جامعا بين التكثيف الفني والهمّ الإنساني. فوزه بجائزة رئيس الجمهورية علي معاشي شكّل محطة فارقة في مسيرته، لكنّه لا يراها تتويجا بقدر ما يعتبرها بداية لمسؤولية مضاعفة. في حواره مع “الشعب”، يتحدّث عباس عن علاقته العميقة بالقصة القصيرة، عن الكتابة كرحلة داخلية للبحث والفهم، وعن التقاء الواقع بالخيال في نصوصه، مؤكّدا أنّ الأدب لا يزال قادرا على ملامسة جوهر الإنسان وسط فوضى العصر.
– الشعب: يرى البعض أنّ الكاتب لا يكتب فقط ما يعرف، بل يكتب كي يعرف..إلى أيّ حد كانت الكتابة عندك بحثًا عن الذّات؟
الكاتب عباس عبد الرزاق: الكتابة عندي رحلة داخل الذات بقدر ما هي رحلة نحو الآخر. كل قصّة أكتبها تفتح في داخلي بابًا جديدًا، تجعلني أكتشف جانبًا لم أكن أعلمه عن نفسي أو عن هذا العالم. نعم، الكتابة عندي هي بحث مستمر، محاولة لفهم المعنى وسط المجتمع الذي أعيش فيه. وبعد كل نص، أخرج مختلفًا قليلًا عمّا كنت قبله.
– ما الينبوع الذي تتغذّى منه نصوصك؟
أكتب لأنّ هناك شيئًا في داخلي لا يهدأ. أحيانًا يكون الينبوع جرحًا إنسانيًا، وأحيانًا أخرى هو قلق جماعي أعيشه كفرد من هذا الوطن الكبير. الكتابة عندي ليست فقط أداة لفهم العالم، بل وسيلة لمواجهته، لتحدّيه، ولإعادة خلقه من جديد بلغة أكثر عدلًا وإنصافًا للمهمّشين والمنسيّين.
– من خلال تجربتك، كيف يتفاعل النّص مع الواقع؟ وهل تنطلق من مشاهدات أم من خيال محض؟
أبدأ غالبًا من مشهد بسيط، ربما من كلمة سمعتها في الشارع، أو صورة رأيتها وعلقت في ذهني، ثم أترك الخيال يعيد تشكيلها. أنا أؤمن أن الخيال لا يُلغي الواقع بل يعيد تأويله، يعريه أحيانًا، ويمنحه أبعادًا أعمق. أحاول دومًا أن أوازن بين الواقعي والفني، لأنّني أؤمن أن الجمال لا ينفصل عن الحقيقة، لكن يجب أن يُقدَّم بلغة تخترق، لا تُقرر.
أمّا في مجموعتي القصصية “شمس في عين الضباب”، فقد كان استلهامي من الشارع الغزّاوي تقريبًا وما يعيشه من تشريد وتجويع، وهذا أعطاني دافعًا آخر لأن أكتب عن مواضيع إنسانية أخرى.
– بما أنّ جائزة علي معاشي تُمنح لأعمال تتوفّر على قدر عالٍ من الجودة الفنية، كيف تقيّم علاقتك بالقصّة القصيرة كجنس أدبي؟ وهل ترى أنّ فوزك كان نتيجة نضج تجربة تراكمية أم تتويجًا للحظة إبداعية فارقة؟
القصة القصيرة جدّا بالنسبة لي جنس أدبي يُشبه الومضة، يختصر كثيرًا من الكلام في لحظة لغوية مكثّفة. علاقتي بها علاقة عشق قديم، تشكّلت مع قراءاتي الأولى لكتّاب كبار، حتى أصبحت الكتابة جزءًا من يومياتي، أكتب عن الناس، عن فلسطين، عن الجزائر، عن الألم، عن الأمل. وجدت نفسي أكتب قصصًا قصيرة جدًا، لأنّني أحسست بقربي للقارئ أكثر. ومن هنا بدأت أعمل على مشروعي الأدبي بجدية.
وتعمّقت أكثر حين بدأت أكتشف صوتي الخاص. الفوز لم يكن وليد لحظة عابرة، بل نتيجة سنوات من التمرّن على الإصغاء لما لا يُقال، ومحاولة الإمساك بجوهر الإنسان في لحظاته الهاربة. التجربة نضجت تدريجيًا، وكل قصة كتبتها كانت تمهيدًا لهذه اللحظة.
– بعد مرور فترة على تتويجكم بجائزة رئيس الجمهورية للمبدعين الشباب “علي معاشي”، كيف تنظرون اليوم إلى هذه اللّحظة؟ وهل يمكن القول إنها شكّلت منعطفًا حقيقيًا في مسيرتكم الأدبية أم أنّها مجرّد محطة رمزية ضمن مسار إبداعي متواصل؟
استقبال خبر التتويج بجائزة علي معاشي للمبدعين الشباب كان لحظة لا تُنسى، لحظة اختلط فيها الحلم بالواقع، والتعب بالثمر، شعرت أن الكلمات التي سكنتني لسنوات، قد وجدت أخيرًا من يصغي لها على المستوى الرسمي الأعلى في البلاد. الجائزة ليست فقط تكريمًا أدبيًا، بل هي أيضًا اعتراف بأنّ ما نكتبه له صدى في الوجدان الجزائري.
أراها محطة مهمة، نعم، ولكنها ليست النهاية، بل أعتبرها بداية جديدة، ومسؤولية مضاعفة لأرتقي أكثر وأواجه تحديات أكبر، لأكتب ما يليق بثقة قرّائي وبلدي.
– في ظل التّحوّلات المتسارعة في الذّائقة القرائية..هل ترى أنّ القصّة القصيرة لا تزال قادرة على ملامسة جوهر الإنسان؟
رغم طغيان الرقمي وسرعة التلقي، أعتقد أنّ القصة القصيرة ما زالت تحتفظ بقدرتها على النفاذ إلى عمق الروح. صحيح أن الذوق العام تغيّر، لكن الإنسان لا يزال يحتاج إلى من يوقظ فيه الأسئلة، ومن يعيد ترتيب فوضاه الداخلية في نص محكم ومكثّف.
القصة القصيرة قد تكون اليوم هي الأنسب لهذا العصر المتسارع، لأنها تقول الكثير بأقل ما يمكن.
– هل ثمّة كتاب أو لحظة قرائية معيّنة تركت أثرًا فيك؟ وهل يولد الكاتب من قراءاته أكثر ممّا يولد من واقعه؟
أعتقد أنّني وُلدت من الكتابة، لكن تربّيت على القراءة. لحظات كثيرة تركت أثرًا في نفسي وصنعت بداخلي زلزالًا لم يهدأ إلى اليوم. أذكر جيدًا أوّل مرة قرأت فيها “رجال في الشمس” لغسان كنفاني، لم أكن حينها أبحث عن الأدب، بل كنت أبحث عن إجابة لأسئلة لم أكن أجرؤ على طرحها. فجأة اكتشفت أنّ الكتابة يمكن أن تكون صرخة، وشهادة، ومقاومة، ثم جاءت قصائد محمود درويش، فشعرت أن اللغة وطن يُسكن حين يُغتصب الوطن الحقيقي.
الكاتب يولد من التقاء التجربة بالقراءة، الواقع يجرحه، نعم، لكن القراءة تعلّمه كيف يُترجم ذلك الجرح إلى نص. أحيانًا نولد في واقع لا يسمح لنا بالكلام، فتأتي الكتب كنافذة نطلّ منها على أنفسنا، لهذا أقول: الكاتب يُولد من واقعه، لكنه لا يُصبح كاتبًا حقًا إلا عندما تصقله الكتب وتوقظه الكلمات.
– ما هي الرّسالة التي أردت أن توصلها للقارئ من خلال مجموعتك القصصية “شمس في عين الضّباب”؟
هذا العمل ليس مجرد مجموعة من القصص فقط، بل هو دعوة للتفكير في حقيقة العالم من حولنا، وما يبقى من إنسانيتنا رغم كل شيء. حاولت أن أطرح الأسئلة أكثر ممّا أقدم الأجوبة، وأن أفتح نوافذ على عوالم مهمّشة، غالبًا ما نتجاهلها، لكنها تسكن فينا دون أن ندري.





