شهد المغرب في الأيام الأخيرة موجة احتجاجات شبابية غير مسبوقة متزامنة قادتها مجموعات ناشئة على الإنترنت، انطلقت من العاصمة الرباط وامتدّت إلى مدن أخرى، رافعةً مطالب إصلاح التعليم وخدمات الصحّة العمومية ومراجعة أولويات الإنفاق العام والفساد المستشري في البلاد.
تدخّلت قوات الأمن المخزني لمنع التجمّعات وتفريقها بالقوة واعتقلت العشرات من الجنسين، ما أعطى المشهد بُعداً سياسياً وحقوقياً يتجاوز مطلباً قطاعياً إلى سؤالٍ عن كيفية إدارة الدولة للاعتراض السلمي. وفي سياق متصل، برزت مقاطع مصوّرة وشهادات محلية توثّق المنع والتوقيفات والقمع الممنهج، بينما واصل الشباب الدعوة إلى احتجاجات جديدة، معوّلين على التنظيم الشبكي عبر منصّات التواصل التي تحوّلت إلى غرفة عمليات للحشد والتعبئة.
كذلك، لا تنفصل هذه الهبّة عن خلفية اجتماعية مثقلة بغلاء معيشي وتآكل في القدرة الشرائية واشتداد كلفة الحياة اليومية، علاوة على ذلك، كان لمسار رفع الدعم عن الطاقة وبعض السلع واسعة الاستهلاك أثرٌ تراكميّ على الفئات الهشّة والمتوسطة. بالاضافة إلى هذه المحددات الاجتماعية، يواجه قطاعا التعليم والصحّة اتهاماتٍ بالتراجع في الجودة والولوج والتمويل، وهو ما يغذّي حساسية أيّ تغيير تشريعي يطال الجامعة العمومية أو يلمّح إلى توسيع منطق السوق داخلها. هنا يتقاطع الميداني مع التشريعي: مشروع قانون 59.24 للتعليم العالي والبحث العلمي تحوّل إلى محفّز إضافي للاحتجاج بعد اعتراض نقابات وأطقم جامعية على مضامينه وطريقة إعداده، معتبرةً أنه يمسّ استقلالية الجامعة ومجّانيتها ويضعف آليات المشاركة.
ويؤكد الدكتور مصطفى بوحاتم، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، في تصريح لـ “الشعب” أنّ ما يحدث هو حصيلة تراكم ضغوط متداخلة، تدهورٌ معيشي مرتبط بديون خارجية كبيرة، وسياساتٌ مالية دفعت نحو رفعٍ متدرّج للدعم منذ منتصف العقد الماضي انعكس على منتجات الطاقة ومواد أساسية. وفي نفس السياق، يوضح أنّ “المخزن” راهن طويلاً على سردية إعلامية تقدّم المغرب كقصة نجاح تنموي قارّياً، غير أنّ مؤشرات التنمية البشرية تُظهر فجوة بين الخطاب والواقع، وتضع ترتيب البلاد خلف دولٍ إفريقية أقلّ ضجيجاً تسويقياً. هذه الهوّة، برأيه، تجعل أيّ شرارة اجتماعية قابلة للتمدّد بسرعة في بيئة رقمية شبابية لا تخضع لأطر الوساطة التقليدية.
علاوة على ذلك، يضيف بوحاتم بعداً رمزياً وأخلاقياً يتعلّق بالسياسة الخارجية؛ إذ إنّ ملفّ التطبيع مع الكيان الصهيوني واستقبال شخصيات متّهمة بارتكاب جرائم حرب، والتقارير عن عبور شحنات سلاح مرتبطة بالحرب على غزة، كلها عناصر رفعت كلفة الشرعية لدى جيلٍ يتابع الحروب حيّاً على شاشته ويسائل المواقف بلا هوادة. وهنا يختلط الاجتماعي بالسياسي، وتتجاور مطالبُ قُرْبِ المستشفى والجامعة مع أسئلة الضمير العام، فتتّسع دائرة الاصطدام مع مقاربةٍ رسمية ترى الإنفاق على التهيئة الرياضية والاستحقاقات الكروية استثماراً تنموياً، بينما يراها المحتجّون تزاحم سرير الولادة وقسم الطوارئ وحجرة الدرس.
بالإضافة إلى المحددات سالفة الذكر، تتقدم إشارات أزمةٍ سياسية صامتة تُطرح معها تساؤلات حول مراكز القرار وفعالية قنوات المحاسبة العمومية. ويلفت بوحاتم إلى أنّ غموض البنية العميقة لصنع القرار خلال فترات مرض الملك نقل عبء الواجهة إلى الحكومة دون أن يبدّد أسئلة الشرعية والنجاعة، ومع كل موجة منع واعتقالات تتسع الفجوة بين خطاب الإصلاح وواقع الحرّيات. وفي هذا السياق، يصبح اللجوء السريع إلى المقاربة الأمنية محاولةً لإطفاء الحريق بالماء والوقود معاً، إذ يهدّئ الشارع لحظياً لكنه يراكم مظلومية تغذّي الجولة التالية.
وفي سياق متصل، لا يمكن إغفال أنّ تنظيم ما يسمى “جيل زد 212” بقي لا مركزيّاً ومتفلّتاً من القبضات الحزبية والنقابية التقليدية؛ قوة هذا الشكل أنّه سريعٌ في التعبئة وصعبُ الاختراق، وضعفه أنّه يواجه صعوبة في بلورة قيادة تفاوضية واضحة وحزمة مطالب مُرقّمة قابلة للتنفيذ والقياس. هنا يقترح بوحاتم مساراً عملياً لتفادي الانزلاق: الاعتراف المبدئي بشرعية المطالب الاجتماعية، وفتح قنوات مؤسسية عاجلة مع ممثلي الجامعة والنقابات والهيئات المهنية لوضع خطة إنقاذ خدماتية تُربط زمنياً ومالياً، والشروع بمراجعة تشاركية. بما يعيد الاعتبار لاستقلالية الجامعة ومجّانيتها وأدوارها التنموية. كذلك، يستدعي السياق وقفَ أيّ استعمال مفرط للقوة وتحييدَ النيابة العامة عن تصعيد قضائي ضدّ التعبير السلمي، لأنّ كلفة تجريم الاحتجاج أعلى بكثير من كلفة الإصلاح المتدرّج.
ويرى العديد من المتابعين أن الموجة الشبابية ليست فقاعة غضب، بل مؤشّرٌ بنيوي على خللٍ في العقد الاجتماعي مع جيلٍ يريد جودة تعليم وصحة وفرصاً لائقة ووضوحاً في أولويات الإنفاق. والخيار الأمني وحده لا ينتج استقراراً، بل يرحّل المشكلة ويضخّمها. والمدخل الواقعي هو سياسةٌ عمومية تضع المستشفى والمدرسة قبل الملعب، وتُحوّل مطلب الكرامة إلى أرقام في الميزانية وجدولٍ زمنيٍّ للمشاريع بدل شعارات. بذلك فقط يمكن للمغرب أن يخفّض حرارة الشارع ويعيد بناء الثقة، وأن يثبت أنّ الدولة قادرة على الاستماع والتعديل قبل أن تفرض نتائج الأمر الواقع.





