يقسم المنظر الماركسي الإيطالي أونطونيو غرامشي المثقفين إلى صنفين: “مثقف تقليدي” يعيش في زمن غير زمنه، ويتفاعل مع واقع ليس واقعه، ويقبع في برج عاجي بعيدا عن مجتمعه وأفراد ذلك المجتمع. و«مثقف عضوي” على النقيض من ذلك يعيش واقعة ويتفاعل معه ويختلط مع أفراده يقاسمهم همومهم محاولا تقديم مقاربات لمشاكل المجتمع وانشغالات أفراد.
فـ«المثقف” ليس ذلك الذي حاز نصيبا من التعليم ونال جزءا من الثقافة، فغدا يحسن القول ويجيد التعبير.. ليس هذا هو المثقف وإن كان كل ما سبق يدخل في الأدوات والمهارات الضرورية التي يجب حيازتها، لكنها حيازتها لوحدها لا تصنع مثقفا. إنما المثقف هو امرؤ يسهم في صناعة وعي أفراد مجتمع بطريقة من الطرق، بإيقاد الشموع في الظلام الذي يخيم في المجتمعات التي تتعرض لسياسات التجهيل المتعمد. ويمكن عندئذ القول «إن المثقف هو مرادف المتنور والداعية والمنقذ والناشر للوعي»!
وإذا وضعُ نصب العينين هذا التعريف الذي سيوضح صورة المثقف الحقيقية من كثير من الكليشيهات المزيفة التي تدعي انضمامها لحقل الثقافة.. ادعاءٌ يكفر به واقع الثقافة وحال الفكر ووضع الآداب. وسيتضح -أيضا- كيف تكون علاقة المثقف بالسلطة، وكيف يتوجب على المثقف أن يتعامل مع أجهزتها المختلفة بترك مسافات الأمان التي تتيح له القيام بوظيفته على أكمل وجه في تقديم نقد لها، والقيام بالمعارضة الفكرية الفعلية لا الشكلية!
ويمكن أيضا إعادة قراءة تاريخ الأفكار والشخصيات الفاعلة فيه، واكتشاف المثقفين الذين أسهموا في تشييد الثقافة العارفة وصناعة الوعي من خلال التحلي بالزهد في المناصب والإغراءات التي توزع على أهل الشأن لاستدراجهم وتكميم أفواههم، وتحويلهم لأبواق بشرية تشرعن الطغيان والاستبداد وتجمّل الرداءة والفوضى.
إن المثقف بالصورة التي صورت هنا يقترب من المعارض الثقافي، وإن كنا لا نشجعه سوى على المعارضة الناعمة التي يُستخدم فيها المثقف مهاراته في المناظرة والحجاج والإقناع والإفحام أحيانا، ولا ندعو بحال من الأحوال إلى المعارضة الشرسة، لأن المعارضة الشرسة لا تكون في العادة في صالح الثقافة ولا في صالح المثقف نفسه.
إن هذا الدور المغيب والفريضة المهجورة من قبل المثقفين قد عزلت – شيئا فشيئا – هذه الفئة من أدوارها الفاعلة في المجتمع في شتى الميادين والحقول، لتقوقعها حول نفسها، وتصنع منها بورجوازية عالمة، تتبنى خطابا متعاليا، ولن أبالغ إذا قلت أنه بات خطابا ملغزا في نظر الجماهير العريضة، لا تكاد تفكّ شفراته بسبب الهوة التي أحدثت بين أفراد المجتمع ونُخبه (ولا أقول أنتلجنسته). إن المثقفين فئة في المجتمع، ككثير من الفئات.. تختلف عنها في الوظيفة التي أشرنا إليها سابقا. لكن عملية عزلها صنع منها طبقة باتت تشعر أن من حقها ممارسة بورجوازية القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولقد تجلى ذلك في بعض المظاهر المحزنة كالتباهي بالألقاب العلمية أكثر من التحصيل المعرفي، والتفاخر بالتشريف الذي يمنح المنصب أكثر من التكليف الذي توجبه المسؤولية الملقاة على العاتق!
وما لم نتدارك أمر هؤلاء المثقفين، فإن أي حديث عن إصلاحات هو بمثابة شعارات لدغدغة مشاعر الجماهير وتخديرهم وامتصاص حماسهم، فأمر المثقفين ليس أمرا هينا، فنهضة الأمم اليوم مرتهنة بمدى استعدادهم لتنوير العقول المظلمة والقلوب الميتة، بإعادة الحياة لمن استعجل كتابة شهادة وفاته، وبإيقاد شموع الرشاد في ظلماء التيه.. وحسبنا في ذلك أن نبدأ من حيث انتهى مفكرونا كمالك بن نبي، وعبد الوهاب المسيري، ومحمد أركون… لمواصلة سلسلة الأفكار التي كانت تنقد بهدف التأسيس، وتهدم الفاسد من البناء بهدف الترميم.





