رهان استراتيجي لتنويع التمويل ودعـم النمـو خارج المحروقــات

في سياق التحولات الاقتصادية والإصلاحات العميقة التي تشهدها الجزائر، بقيادة رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، الذي باشر منذ سنوات إصلاحات مالية تهدف إلى ترسيخ الحوكمة المالية ومباشرة التحول المالي في مختلف المجالات، لا سيما على مستوى السوق المالي، يتجه النقاش اليوم حول تطوير هذا السوق إلى صلب الإصلاحات الهيكلية، باعتباره أحد المفاتيح الأساسية لتنويع مصادر التمويل ودعم النمو خارج قطاع المحروقات.
هيام لعيون
يأتي المؤتمر السنوي الثالث للسوق المالي الجزائري، المزمع تنظيمه بالعاصمة، السبت المقبل، كموعد محوري لإعادة طرح الرهانات الكبرى المرتبطة بتحديث السوق المالي، وعلى رأسها التحول الرقمي بوصفه ركيزة أساسية لتعزيز الكفاءة والشفافية وتوسيع قاعدة المستثمرين.
وفي هذا السياق، يكتسي المؤتمر المرتقب أهمية خاصة كفضاء للنقاش وتبادل الرؤى بين صناع القرار والهيئات الرقابية والخبراء، حول سبل الانتقال من الإصلاحات النظرية إلى بناء سوق مالي مبتكر وفعال، قادر على أداء دوره الكامل في تمويل الاقتصاد الوطني وتحقيق الشمول المالي، ضمن رؤية تجعل الرقمنة مشروع دولة وسوق، وليس مجرد إجراء إداري معزول.

رافعة للكفاءة والشفافية

أكد الخبير في المجال المالي، نبيل جمعة، أن الانتقال إلى سوق مالي رقمي لم يعد خيارا تقنيا ظرفيا، بل مسارا استراتيجيا يمس بنية التمويل في الاقتصاد الوطني، من خلال تسريع عمليات الإدراج، وتسهيل إصدارات السندات والصكوك، وتطوير أدوات تمويل بديلة، بما يخفف الضغط عن التمويل البنكي التقليدي ويفتح آفاقا أوسع أمام المؤسسات، خاصة المتوسطة منها.
وأبرز جمعة، في تصريح لـ»الشعب»، أن التحول الرقمي يطرح، في المقابل، تحديات تنظيمية وبشرية وأمنية، ما يستدعي إطارا قانونيا مواكبا وحوكمة رقمية متوازنة تجمع بين الإشراف الصارم والتيسير المدروس.
وفي السياق ذاته، أشار الخبير المالي إلى أن التحول الرقمي للسوق المالي الجزائري يعزز كفاءة العمليات، ويقلص زمن تنفيذ الصفقات، ويخفض كلفة المعاملات، إضافة إلى الحد من الأخطاء البشرية المرتبطة بالإجراءات التقليدية.
وأوضح أن الرقمنة ترفع مستوى الشفافية، من خلال التتبع الفوري للعمليات، وتوحيد قواعد الإفصاح، وتوفير المعلومات في الوقت الحقيقي، وهو ما يعزز الثقة في السوق ويجعلها أكثر مصداقية وجاذبية.
وأضاف جمعة أن الرقمنة تمثل عنصرا محوريا في ترسيخ الشفافية المؤسسية، إذ تتيح للمستثمرين متابعة مختلف مراحل الصفقة بشكل مباشر، والاطلاع على المعلومات المتعلقة بالشركات المدرجة دون تأخير، بما يحسن جودة القرار الاستثماري ويقلل المخاطر الناتجة عن نقص أو تأخر البيانات.

الشمول المالي وتوسيع قاعدة المستثمرين

وأوضح جمعة أن المنصات الرقمية تكسر الحواجز الجغرافية والإجرائية، وتسمح للمستثمرين الأفراد، صغارا ومتوسطين، بالوصول إلى السوق ومتابعة التداول بسهولة، دون الحاجة إلى وسطاء مكلفين، ما يوسع قاعدة المستثمرين ويرفع من مستوى السيولة.
وأشار إلى أن أدوات مثل الدفع الإلكتروني والتوقيع الرقمي تسهم في إدماج شرائح جديدة كانت خارج السوق سابقا، ما يجعل السوق المالي أقل نخبوية وأكثر اندماجا مع الاقتصاد الوطني. وأضاف أن هذه الآليات الرقمية تسهل عمليات الاكتتاب الجماعي للأفراد والمؤسسات الصغيرة، وتعزز فرص التمويل والاستثمار في مشاريع منتجة، وهو ما ينعكس إيجابا على حيوية السوق وقدرته على استقطاب مدخرات جديدة.
وحول تأثير الرقمنة على تمويل الاقتصاد، أكد جمعة أن السوق المالي الرقمي يسهل عمليات الإدراج، وإصدار السندات والصكوك، ويدعم أدوات التمويل البديلة، بما في ذلك السندات الرقمية والخضراء، التي تتيح للشركات الحصول على تمويل طويل الأجل وبتكلفة أقل نسبيا.
وأضاف أن الرقمنة تساهم في تخفيف الضغط عن التمويل البنكي التقليدي، وتوفر قنوات تمويل مبتكرة للمؤسسات المتوسطة والصغيرة، ما يمكنها من توسيع أنشطتها الإنتاجية والاستثمارية. وشدد على أن الاقتصاد الجزائري المتنوع يحتاج إلى سوق مالي قادر على الابتكار والتكيف مع المتغيرات، وليس مجرد منصة تقليدية لتداول الأسهم والسندات.

البنية التحتية والكفاءات والأمن السيبراني

وبخصوص مواكبة التشريعات للتحول الرقمي، أوضح جمعة أن الإطار القانوني الحالي عرف تحسنا ملحوظا في مجالات الامتثال ومكافحة تبييض الأموال، غير أنه لا يزال متأخرا عن وتيرة الرقمنة المتسارعة.
وأشار إلى وجود فجوات تتعلق بحجية التوقيع الرقمي، وحفظ البيانات، والأمن السيبراني المتخصص بالأسواق المالية، إضافة إلى تنظيم منصات التداول والخدمات الرقمية الجديدة، التي تتطلب تدفقات بيانات كبيرة وآليات مراقبة دقيقة.
وأكد أن المرحلة الراهنة تستدعي تحديثا تشريعيا متكاملا يوازن بين الرقابة والتيسير، ويضمن بيئة آمنة ومرنة تشجع الابتكار، بدل الاكتفاء بإجراءات جزئية لا تستجيب لتطورات السوق الرقمي.

المؤتمر السنوي للسوق المالي.. منصة استراتيجية

وعن أبرز التحديات التي تواجه رقمنة السوق المالي الجزائري، حدد جمعة جملة من العراقيل، أبرزها غياب بنية تحتية تقنية متجانسة، ونقص الكفاءات الرقمية المتخصصة، ومقاومة التغيير داخل بعض المؤسسات، إلى جانب مخاطر الأمن السيبراني.
وأوضح أن تجاوز هذه التحديات يتطلب استثمارات معتبرة في الأنظمة الرقمية، وتكثيف برامج تكوين الموارد البشرية، واعتماد حوكمة رقمية صارمة، مع إتاحة تجارب منظمة تسمح بالابتكار في إطار رقابة ذكية تضمن الاستدامة وتجنب المخاطر التشغيلية.
وشدد الخبير المالي على أن التحول الرقمي يعد مشروعا متكاملا للدولة والسوق المالي، وليس مجرد ملف إداري، مؤكدا أن رقمنة السوق ليست خيارا تجميليا، بل شرطا أساسيا لتحقيق الكفاءة والشفافية والتمويل المستدام، ومن دونها يبقى تأثير السوق محدودا مهما تحسنت المؤشرات الورقية أو النصوص التنظيمية.
وخلص جمعة إلى التأكيد على أن المؤتمر السنوي للسوق المالي، الذي تنظمه الجزائر بداية الأسبوع المقبل، يشكل منصة استراتيجية لمراجعة السياسات، وتبادل الخبرات مع الأسواق المالية العالمية، واستشراف أفضل الممارسات لتحديث التشريعات والإجراءات التنظيمية، بما يضمن سوقا ماليا مبتكرا وفعالا، قادرا على دعم النمو الاقتصادي وتحقيق الشمول المالي. كما يوفر المنتدى فضاء للنقاش حول أدوات التمويل الجديدة، مثل السندات الرقمية والتمويل الجماعي المنظم، ما يعزز قدرة السوق على استقطاب مستثمرين جدد ودعم الاقتصاد الوطني بطريقة مستدامة ومبتكرة.
وجدير بالذكر أن المؤتمر السنوي الثالث للسوق المالي الجزائري ينظم، تحت شعار «التمويل المبتكر – التحول الرقمي – الاستدامة المالية – الشمول المالي»، بمشاركة رؤساء هيئات الأسواق المالية لعدد من الدول العربية، وبورصة إسطنبول، وصندوق النقد العربي، وممثلين عن الاتحاد العربي لهيئات الأوراق المالية، إلى جانب خبراء ومتخصصين في مجالات الأسواق والتكنولوجيا المالية والتمويل المستدام والشمول المالي.
ويكتسي الحدث أهمية خاصة لتزامنه مع اجتماع لجنة تنظيم عمليات البورصة ومراقبتها التابعة لاتحاد هيئات الأوراق المالية العربية، ما يعكس، حسب بيان صادر عن لجنة تنظيم عمليات البورصة ومراقبتها (كوسوب)، المكانة المتقدمة التي باتت تحتلها الجزائر إقليميا في مجال تنظيم وتطوير الأسواق المالية.
وتؤكد هذه الطبعة الثالثة، وفق المصدر ذاته، التزام اللجنة بدعم تحديث السوق المالي الجزائري، وتعزيز الشمول المالي، وترسيخ مبادئ الاستدامة والابتكار، بما يخدم التنمية الاقتصادية الوطنية ويعزز اندماج السوق المالية الجزائرية في محيطها الإقليمي والدولي.