على أبواب الحادي عشر من ديسمبر، يتوقّف الزمن قليلًا عند عتبة الذاكرة الجزائرية. هناك، تختلط أصوات المتظاهرين في شوارع 1960 بنبض المطابع الأولى، وحيث كانت البلاد تستعيد أنفاسها في لحظة تحوّل، ولدت “الشعب”.. بشهادة ميلاد وطن يكتب نفسه بدماء أبنائه، ويُسطّر سطوره الأولى بحبر الحرية.
اليوم، وبعد ثلاثة وستين عامًا من السير فوق جمر الأسئلة الكبرى، ما تزال “الشعب” تملك تلك القدرة الساحرة على أن تُصغي إلى همس الشارع، وأن تصنع من ضجيج العالم نصًّا يليق بجمهورٍ لم يقرأ يومًا إلا بعيون الوطن.
63 عامًا… هل هي مجرّد رقم؟
ماذا يعني أن تصمد صحيفةٌ ثلاثة وستين عامًا في وجه الريح؟
ماذا يعني أن تُبحر في بحر السياسة والثقافة والمجتمع دون أن تُطفئها العواصف؟
هل يكفي أن نقول إنها صحيفة وطنية، أم أنّ الوطنية نفسها استعارت ملامحها من “الشعب”؟
على مدى عقود، كانت “الشعب” مدرسةً في الكتابة، وخندقًا في المعركة، ومنبرًا للوعي.
كانت مرآةً تُعيد للجزائريين صورتهم، لا كما يريدها الآخر، بل كما تصنعها التجارب والعرق والذاكرة.
وفي الوقت الذي تمدّدت فيه الصحافة المكتوبة في العالم، وحين أزاحت السرعة الرقمية كثيرًا من الورق، ظلّت “الشعب” تحفظ سرّ بقائها: إنها تُصدر نفسها من قلب الناس، لا من هوامشهم.
11 ديسمبر… يلتقي التاريخ بالتاريخ
وليس عبثًا أن تكون ذكرى تأسيس الجريدة متزامنة مع ذكرى مظاهرات 11 ديسمبر 1960.
اليومان يتداخلان، يتعانقان، يكتبان الرسالة نفسها: أنّ الكلمة لا تقلّ عن التظاهر قوةً، وأنّ الوعي جناحٌ آخر للثورة.
وحين يلتقي الجزائري والفلسطيني على صفحات “الشعب”، فإنهما لا يلتقيان صدفة، بل يعودان إلى ذلك الخندق الذي جمعهما منذ بدايات الثورة الفلسطينية، منذ أن تعلّمت بنادق المخيّمات نشيد «قسما»، وتعلّم مجاهدو الجبال كيف يُكتب اسم فلسطين على راية لا تنطفئ.
فلسطين في جريدة “الشعب”.. ذاكرة مشتركة
منذ أول ملحقٍ أصدرته الجريدة للأسرى الفلسطينيين في 1 يناير 2011، تيمّنًا بذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية، أعلنت “الشعب” انحيازها الواضح للحقّ، والتزامها بحمل قضيةٍ لم تكن يومًا بعيدة عن وجدان الجزائريين.
ذلك الملحق لم يكن مجرّد صفحات تُطوى، بل كان مساحةً تُعاد فيها كتابة الإنسان الفلسطيني، بوجعه، بحلمه، وبصلابته التي تُشبه صلابة الزيتون في جبال نابلس.
ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، لا يزال الملحق يصدر، مثل وعدٍ لا ينقطع، مثل جسرٍ يربط بين شعبين جمعتهما الثورة، وفرّقتهما الجغرافيا فقط.
هل ما تزال الصحافة قادرة على صنع المعجزات؟
في زمنٍ تتناسل فيه المنصّات كالفطر، ويصبح الخبر دميةً في يد السرعة، يقف سؤالٌ كبير على باب المهنة:
هل ما تزال الصحافة قادرةً أن تكون ضميرًا؟
هل ما تزال الصحيفة الورقية قادرة على أن تكون بيتًا يلوذ إليه القارئ؟
وأين يقف القلم في زمن الذكاء الاصطناعي والأخبار الاصطناعية؟
قد تُجيب “الشعب” دون أن تتكلم:
«نحن هنا… لأنّ الحقيقة تحتاج إلى من يحرسها، ولأنّ الذاكرة تحتاج إلى ورقٍ يوقّعها، ولأنّ الوطن لا يُكتب في عجالةٍ أو نسيان».
الجريدة التي تُشبه شعبها
إن سرّ استمرارية”الشعب” ليس فقط في قدرتها على التوثيق، بل في قدرتها على السؤال.
تسأل: من نحن؟ ماذا نريد؟ ماذا يقول لنا التاريخ؟
تُسائل الواقع، وتُجادل اللغة، وتُشكّل خطابها عبر الحجاج، والمنطق، والإنشاء الطلبي والخَبري، لتقدّم للقارئ نصًّا لا يُريد منه أن يقرأ فقط، بل أن يفكّر، أن يعترض، أن يُعيد تشكيل العالم.
ا«لشعب” لم تكن خادمة للخبر، بل سيّدة للسرد.
لم تكن صدى لغيرها، بل صدى للمواطن البسيط الذي يحلم بوطنٍ أجمل.
ولم تكن يومًا جدارًا صامتًا، بل نافذة تُطلّ على المستقبل.
الجزائر وفلسطين.. صفحتان في كتاب واحد
حين تصل مادة فلسطينية من أستاذةٍ تشارك هذه الذكرى التاريخية، فإنّ الجريدة لا تستقبل مقالًا فقط، بل تستقبل قطعةً من الروح.
ففلسطين التي حملتها الجزائر في النشيد وفي الدم وفي الشوارع، تجد اليوم مكانها الطبيعي في صفحات “الشعب”.
وهكذا، تعود العلاقة إلى أصلها:
صفحتان في كتاب واحد، وطنان في حلم واحد، صوتان يكتبان نفس الرسالة منذ عقود.
وما أجمل أن يمتد هذا الحبر ليجمع الشعبين، لا في السياسة فقط، بل في الحكاية، في الذاكرة، في الوجع، وفي الانتماء.
ختامًا… حين يصبح الحبر وطنًا
ثلاثة وستون عامًا ليست مجرّد احتفال… إنها امتحان.
امتحانٌ لقدرة الصحافة على أن تبقى، على أن تُضيء، على أن تكتب التاريخ دون أن تُخدعه.
وفي ذكرى التأسيس، تُعلن “الشعب” مرةً أخرى أنها صحيفة وُلدت من رحم الثورة، وستبقى وفيّةً لذلك المخاض، مهما تغيّرت الأزمنة.
إنها جريدةٌ تشبه الجزائر.. وتشبه فلسطين.. وتشبه كل من يؤمن بأن الكلمة جبهةٌ أخرى لا تقلّ شرفًا عن خطوط النار.
وها هي، بعد 63 عامًا، لا تزال تقف على باب الفجر،
تسأل، وتكتب، وتُقاوم… وتقول للقارئ:
«ما دام في الوطن قلبٌ ينبض، فسيظلّ للحبر وطنٌ يُكتب».





