شهد حصن 23 بقصر رياس البحر بالجزائر العاصمة معرضا فرديا للفنان التشكيلي الشاب بابي عبد الغني، ابن مدينة عين صالح، الذي قدم للزوار مجموعة من 23 لوحة تحت عنوان “إشراقات تشكيلية”.
المعرض الذي استقطب اهتمام المهتمين بالفن التشكيلي، قدم رؤية بصرية تستلهم الصحراء وتراث الجنوب الأمازيغي، في صياغة تشكيلية معاصرة تجمع بين الرمزية والانطباعية. وفي تصريح لـ«الشعب”، كشف الفنان عن تفاصيل تجربته وملامح مشروعه الفني القادم.
يؤكد الفنان بابي عبد الغني أنّ الصحراء هي منبع الإلهام الذي يشكّل جوهر تجربته الفنية. يقول: “الفنان ابن بيئته.. وكل ما أراه يوميا في عين صالح من تفاصيل الحياة والعادات والفولكلور، يتحول إلى عناصر داخل لوحاتي. الصحراء بالنسبة لي ليست موضوعا، بل روحا أحاول أن أجعلها تتكلم”، ويشير إلى أن معرض “إشراقات تشكيلية” قدّم رؤية متكاملة لحياة الجنوب، من العمارة التقليدية إلى الرموز الأمازيغية والنقوش العريقة، وهي عناصر يعتبرها جزءا من الذاكرة الجماعية التي يسعى إلى إحيائها بصريا.
ويكشف بابي أن المزج بين الرمزية والانطباعية ثمرة تطوّر طبيعي في مساره الفني. ليوضح: “تشدني الرمزية لأنها الأقرب إلى صدق مشاعري، بينما تنسجم الانطباعية مع محاولاتي لالتقاط الضوء وحركة الطبيعة. كل شكل وخط موجود في لوحاتي يعود إلى المعمار التقليدي في منطقتنا.. تلك الزوايا، المثلثات، النقوش.. كلها رموز أعيد قراءتها فنيا”.
هذا المزج منح أعماله طابعا خاصا، يقوم على الغموض المحسوب، وهو ما يعتبره الفنان جزءا أساسيا من الهوية التي يسعى لإرسائها: “الغموض هو عنصر جمالي.. أريده أن يجعل المتلقي يتوقّف أمام اللوحة، يتساءل، ويحاول اكتشاف المعنى دون أن أفرض عليه قراءة جاهزة”.
الضوء حاضر بقوة في لوحات عبد الغني، وهو ما يعيده إلى طبيعة الصحراء القائمة على التناقضات: حرارة النهار، برودة الليل، والألوان القوية التي تميّز اللباس والعمارة. يقول: “حاولت أن أزرع هذا التناقض في اللوحة. الصحراء تمتلك طيفا لونيّا فريدا.. البرودة والحرارة، الضوء والظل، الحدة والنعومة. أحاول إبراز هذه المفارقات لأنها جوهر التجربة الصحراوية”. ويعتبر الفنان أن التحكم في الضوء هو مفتاح نقل إحساس الصحراء إلى المتلقي مهما كان بعيدا عنها.
ويولي الفنان أهمية كبيرة للتراث الأمازيغي، الذي يشكل ـ إلى جانب البيئة الصحراوية ـ أحد أعمدة مشروعه التشكيلي. ويقول: “أستند دائما إلى الرموز الأمازيغية، النقوش، المعمار التقليدي والزخارف. هي ليست مجرد أشكال، بل تاريخ كامل يعكس هوية الجزائريين من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب. الفن قادر على صون الذاكرة، واللوحة تحمل ما قد يضيع مع الزمن”.
ويؤكد المتحدث أن الهوية البصرية الجزائرية بحاجة إلى مزيد من الاستلهام من الجنوب، لأنه “كنز بصري كبير لم يُستثمر بعد بما يكفي”.
ويعتبر بابي عبد الغني احتضان مركز الفنون والثقافة بقصر رياس البحر لمعرضه خطوة مهمة في مسيرته، “كان أمرا يعني لي الكثير. هذا الفضاء يمنح للفنان مكانة ويقربه من جمهور واسع ومتنوع. هو محطة مهمة تمنحني ثقة أكبر في الاستمرار وتطوير تجربتي”.
ويحمل الفنان التشكيلي طموحا كبيرا يتجاوز حدود المعرض الحالي، حيث يعمل على مشروع شخصي، يسعى من خلاله إلى تأسيس مدرسة فنية في عين صالح، لتكون نواة لحركة تشكيلية في الجنوب. ويضيف: “الجنوب مليء بالمواهب التي لا تجد معاهد قريبة منها.. حلمي أن أوفر لها قاعدة أولى للتكوين، وأن تُتاح لها الفرصة لاحقا لمواصلة تكوينها في المدارس العليا”. كما يعمل على معرض جديد يحمل بصمات عن التراث الجزائري والرموز الأمازيغية والامتداد الإفريقي، ويطمح إلى تقديمه داخل الوطن وخارجه.
ويرى الفنان عبد الغني بابي أن الحركة الفنية في الجزائر نشيطة وغنية بالأسماء العالمية، لكنه يؤكد على أهمية توفير الدعم المؤسساتي، خاصة ما يتعلق بالمعاهد الفنية في الجنوب. مشيرا إلى أن “الجزائر قارة غنية بتراثها العريق والعميق، نحتاج إلى استثمار هذا الغنى والتعريف به عالميا، تبادل الخبرات والمعارض الدولية ضروري جدا”..
بهذا التصريح، يرسّخ الفنان بابي عبد الغني صورة فنان شاب يحمل الصحراء في قلبه، ويحاول أن يمنحها صوتا بصريا معاصرا. تجربة تنمو بثبات، وطموح يسعى إلى إعادة إحياء الجنوب كفضاء خصب للإبداع التشكيلي.






