وثيقـــة مضـادة” تسجــّل رفـض المجتمع الجزائـري لمخططـات الاحتلال الفرنسي
تُعد قصيدة “قلبي تفكر عربان رحالة” للشاعر الجزائري عيسى بن علال الشلالي إحدى الروائع الخالدة في سجل الشعر الملحون الجزائري، فهي تمثل وثيقة سوسيو-تاريخية عميقة، تعكس التحولات الجذرية التي مرّ بها المجتمع البدوي في منطقة السهوب خلال فترة حاسمة من تاريخ البلاد، امتدت من أواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين.
الشعر الملحون، أو الشعبي، هو فن أدبي أصيل يلوح بجذوره في عمق التاريخ، ويستخدمه الناظم للتعبير عن حالة فردية ومأساة اجتماعية بلهجة محلية خاصة توحي إلى رقعة جغرافية محدّدة.
وتتجلى القيمة المركزية لهذا الفن في كونه مادة نفكك من خلالها الروابط الاجتماعية والعلاقات الإنسانية، كما يوفر جوانب مهمة من تاريخ المنطقة قد لا تبوح بها المصادر الرسمية، حيث تسجل قصائده الملاحم والشخصيات والأحداث الفارقة التي شهدتها المنطقة.لقد أثبت الشعر الملحون أنه وسيلة فعّالة لتوثيق الحياة اليومية في المجتمعات البدوية، فهو يسجل تفاصيل المعارك والرحلات الطويلة، كما يعكس التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وفي هذا الإطار، تمثل قصيدة “قلبي تفكر عربان رحالة” محاولة للحفاظ على الهوية الثقافية في مواجهة التغير، إذ يلعب هذا الشعر دوراً حاسماً في تعزيز القيم البدوية الأصيلة كالكرم والشجاعة، والمساهمة في نقل القصص والعادات من جيل إلى جيل. إن هذا الدور التوثيقي والروحي يضفي على الملحون قيمة ترشّحه لأن يكون أدباً إنسانياً كونياً، لكونه يمثل فضاءً رحباً من الروحانيات والمعاني.
عيسى بن علال الشلالي.. السياق والمكانة
يُعرف الشاعر بأنه عيسى بن علال الزيتوني الشلالي، وقد وُلد عام 1885م في قصر الشلالة، وتشير السيرة إلى أنه امتلك ثقافة تاريخية وسياسية ودينية، وقد غلبت على معظم شعره نزعة دينية.
وفاته كانت بتاريخ 26 ماي 1959م في مسقط رأسه، وهذا الإطار الزمني بالغ الأهمية، إذ يعني أن الشاعر عاش تحت وطأة الاحتلال الفرنسي بالكامل، وشهد تحولات المنطقة من البداوة الرعوية إلى محاولات التوطين القسري، وراقب بداية حرب التحرير المجيدة.
يُعد الشلالي من أعمدة الشعر الملحون، وقد التقى به الفنان خليفي أحمد الذي قدّم رائعته “قلبي تفكر
عربان رحالة”، وعلى الرغم من هذه الشهرة الفنية، ظل الشاعر، كغيره من شعراء الملحون، مهمشاً لفترة طويلة، ما استدعى جهوداً لاحقة لجمع وتوثيق أعماله، مثل “ديوان عيسى بن علال الشلالي في الشعر الملحون” الذي نُشر في الجزائر عام 1999 إن الاهتمام بإخراج هذه الأبحاث والدواوين يهدف إلى نفض الغبار عن هؤلاء الشعراء المغمورين.تُصنف القصيدة ضمن روائع الملحون التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالتراث البدوي، وقد اشتهرت على نطاق واسع عبر إعادة غنائها من قِبَل فنانين كبار مثل خليفي أحمد ورابح درياسة. المحور المركزي الذي تدور حوله القصيدة هو “التفكر” و«الحنين” إلى جماعة محدّدة، هي “عربان رحالة”. هذا العنوان لا يشير إلى عملية تذكر بسيطة، بل إلى عملية وجدانية عميقة، حيث يستدعي القلب نمط حياة كامل، أو ربما كياناً اجتماعياً وقيمياً مثالياً، تلاشى أو كاد يزول بفعل متغيرات الزمان والمكان. إن القصيدة بذلك تقف كنصب تذكاري شعري لتلك الحقبة.
الجغرافيا التاريخيــة للسهــوب
لفهم دلالة “عربان رحالة”، يجب تأطيرها في سياق المنطقة التي عاش فيها الشاعر، فالسهوب هي منطقة شبه صحراوية تربط بين التل والصحراء. هذه البيئة الجغرافية المتقلبة، التي تتسّم ببرودة الشتاء وجفاف الصيف، هي بالضرورة بيئة رعوية، حيث يشكّل الترحال فيها ضرورة اقتصادية للحياة، يعتمد فيها البدو على الانتقال الموسمي بحثاً عن المراعي. هذا النمط من العيش (الترحال) هو الذي يضمن البقاء والتكاثر، وقد استخدم الشعراء قصائدهم لتسجيل تفاصيل مثل هذه الرحلات الطويلة عبر الصحراء.شهد العصر الذي عاش فيه عيسى بن علال (1885-1959م) فترات عصيبة، كانت تلك الحقبة تتسم بضعف الأنظمة التقليدية وكثرة النزاعات، ما أدى إلى تدهور الأوضاع الأمنية بشكل ملحوظ، وتشير الوثائق التاريخية إلى أن هذا العصر شهد كثرة الحروب وسيادة الفوضى وعموم اللصوصية، وارتخاء حبل الأمن. هذا التدهور الداخلي جاء متزامناً مع الضغط المتزايد للاحتلال الفرنسي الذي سعى لإعادة هيكلة المجتمع الجزائري، لا سيما في مناطق السهوب.تجاوز الضغط الاستعماري الجانب العسكري إلى الجانب الاجتماعي، حيث تمّ الاهتمام بظاهرة توطين واستقرار البدو كجزء من الصيرورة التاريخية لتشكّل المجتمع، كان الهدف من التوطين هو السيطرة على العروش وتثبيت السكان في أماكن محدّدة لسهولة إدارتهم وجباية الضرائب منهم، وهو ما يهدّد نمط عيشهم الحر القائم على الحركة.فرض هذا الواقع المضطرب على الذات المحلية علاقة وجدانية أساسها الألم والحزن والخوف والقلق، ووجدان الغربة، وعندما يتفكر الشاعر في “عربان رحالة”، فإنه يستحضر نموذجاً قديماً من الحرية والنظام الاجتماعي، الذي يتناقض جذرياً مع واقعه المليء بالفوضى وغياب الأمن تحت الحكم الاستعماري، وهذا ما يفسر استخدام الشعراء للشعر الشعبي كأداة قوية للبوح عما يختلج في ذوات الآخرين الذين تقاسموا معهم تجربة الزمان والمكان القاسية.
دلالــــة المقاومـة
يعمل مفهوم “عربان رحالة” في القصيدة كرمز قوي للهوية غير الخاضعة، تتجلى إحدى الدلالات العميقة في أن الحنين إلى الترحال هو تمجيد لنموذج قيمي اجتماعي وسياسي مثالي، كان يمثل الأصل والفطرة النقية. في الشعر الشعبي، تعتبر طبوع البداوة هي “الأصل”، وما خالفها من طبوع الحضر هو “الفرع والاستثناء” الذي لا يألفه البدوي.عندما عاش الشاعر فترة اتسمت بالفوضى العارمة
واللصوصية وارتخاء حبل الأمن، فإن استدعاء صورة العروش الرحالة، التي كانت تنظّم نفسها وتحمي كيانها الذاتي بقيمها القبلية (كالشجاعة والكرم)، يصبح بمثابة دعوة لاستعادة النظام الاجتماعي القبلي القادر على توفير الحماية في مواجهة فشل الإدارة القائمة (الاستعمارية) في تحقيق الأمن. وبالتالي، يكتسب الترحال دلالة سياسية غير مباشرة، كونه يرمز إلى الحرية واستقلالية القرار القَبلي، في مقابل القيد والتثبيت الجبري الذي يفرضه المستعمر، الشاعر بذلك يقدم القصيدة كـ«وثيقة مضادة” تسجل رفض المجتمع لهذا التحول القسري.
مـرآة البـــداوة المفقــودة
تعمل قصيدة “قلبي تفكر عربان رحالة” كخزان للذاكرة الجماعية المهدّدة. في مرحلة تحول اجتماعي كبير، حيث تتغير الأنماط الاقتصادية والحياتية، يبرز دور الشعر الشعبي كحارس للهوية.
وقد كان الشعر الملحون يلعب دوراً مهماً في توثيق الحياة اليومية والحفاظ على التراث، من خلال تفكره في “عربان رحالة”، يضمن الشاعر أن قيم البداوة الأصيلة لا تضيع مع زوال نمط الحياة نفسه، ما يشكل أداة ثقافية حيوية لمواجهة الصراع بين البداوة والحضارة.
إن شعراء الملحون استخدموا قصائدهم ليعكسوا التغيرات في المجتمع البدوي، وفي حالة عيسى بن علال، يتجه تفكره لاستحضار القيم النبيلة التي كانت تميز تلك الجماعات، فالبدو غالباً ما يُوصفون بصفات التنافس في السجايا الكريمة والصفات النبيلة، ولهذا السبب، يوثق الشعر الملحون القيم البدوية الأصيلة مثل الكرم والشجاعة.هناك مقارنة ضمنية بين ماضي “عربان رحالة” المثالي، الذي يتسم بالكرامة والحرية، وبين واقع الشاعر المليء بالخوف والفوضى، حتى أن بعض الباحثين قارنوا بين الشعراء الشعبيين، مثل الشلالي، وشعراء الجاهلية (مثل عنترة بن شداد)، في الجمع بين البطولة والشعر، حيث يمجّدون الشجاعة وركوب الخيل، وهي صفات مرتبطة عضوياً بحياة الترحال.القصيدة هي في جوهرها “مرثية اجتماعية” تعكس حالة الحزن والألم الناجمة عن تفكك البنى القبلية ونمط العيش التقليدي، ويظهر هذا الشعور بالفقد في قصائد الشلالي الأخرى، حيث يتحدث عن تقلب أحوال الدنيا والمفارقات، كأن يرثي أهل مدينة باتوا بين أتراب المقبرة، جاثمين تحت أحجار متينة.
إن الحزن على زوال “عربان رحالة” يماثل الحزن على فقدان الأحبة الذين واروا الثرى. هذا التوازي في الشعور يدل على أن الشاعر يرى في نهاية نمط الترحال موتًا لنموذج ثقافي واجتماعي كامل. فـ “التفكر” هو آلية للهروب الوجداني من واقع القيد والاضطهاد الاستعماري (أو ما ينجم عنه من فوضى)، إلى عالم مثالي من الحرية والحركة، هذا الشعور بالألم، الحزن، الخوف، والقلق هو الإطار الوجداني العام الذي ساد في المنطقة إبان العهد الاستعماري.
البنيـة الفنيـــة واللغويـة للقصيــدة
على الرغم من أن القصيدة في الشعر الملحون قد مرّت بمراحل تطور على مستوى البناء الهيكلي لتتماشى مع تنوع البناء الإيقاعي، فإنها ظلت تعتمد على لغة “ملحونة” ولكنها سليمة وفصيحة، تخلو من التعقيد النحوي، وتستخدم جملاً فعلية إنشائية تُكثّف التوتر العاطفي.
هذا الأسلوب ضروري في الشعر الشعبي لتحقيق التأثير الفعّال على المتلقي، خاصة من خلال العنصر الصوتي التناغمي (التنغيمي) الذي يبعث على الهمة.
ويتميز شعر الملحون الجزائري بقدرته على تمرير الخطاب الثقافي، لأنه استطاع أن يسهم في الإبقاء على الكلمة، حتى لو كانت عامية وملحونة، هذا التبسيط اللغوي، الممزوج بالعمق المعنوي، هو ما جعل قصيدة الشلالي تنتشر وتحظى بهذا الاهتمام الواسع.
يتميز معظم شعر عيسى بن علال بنزعة دينية وصوفية، هذا البعد الروحي يوفر إطاراً تأويلياً بالغ الأهمية لفهم دلالة “الحنين” في القصيدة. قد تتضمن القصيدة تعابير غرامية قوية، قد تُفسر ظاهرياً كغزل حسّي، ولكن في سياق الشاعر الشلالي، تُؤول هذه التعابير في الملحون الصوفي على أنها الحب الوجداني تجاه الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.إن لجوء الشاعر إلى الترميز الصوفي يمثل آلية أدبية وفكرية ذكية لتوجيه النقد الاجتماعي والسياسي بطريقة آمنة، في زمن الاستعمار، كان التعبير المباشر عن الألم الاجتماعي الناجم عن الفوضى والتوطين القسري أمراً محفوفاً بالمخاطر، لذلك، استخدم الشلالي الحنين إلى “عربان رحالة” كرمز للجماعة المثالية، أو “المدينة الفاضلة” القائمة على القيم النبيلة المفقودة، بالتالي، يصبح الرحيل المذكور رحلة داخلية وروحية (التفكر)، تهدف إلى الهروب من الواقع المادي الفاسد والبحث عن الهوية النقية أو القرب الإلهي الذي يمثل النظام الأمثل والأمن الحقيقي.إن اختيار الشاعر لفعل “تفكر” بدلاً من “تذكر” ليس عرضياً، “التفكر” يحمل دلالة أعمق تشير إلى عملية عقلية ووجدانية مستمرة. هذا الفعل يركز على استحضار جوهر النموذج المفقود، بما فيه من قيم وشجاعة وتضامن.إن القصيدة، بتركيزها على هذه العملية الذهنية، تؤكد أن الأزمة التي يعاني منها الشاعر هي أزمة وجودية وفكرية بامتياز، ناتجة عن التحول السريع والمفروض على المنطقة.12من هذا المنطلق، فإن القصيدة تمثل أداة لحفظ “الكنز المدفون” من الشعر الملحون، الذي يلقي الضوء على جوانب مهمة من عصر وجماعة لم يكشف عنها التاريخ الرسمي، ويساهم في الحفاظ على اللغة والثقافة.
الأثـر الثقـافي والذاكـرة الجماعيـة
قصيدة “قلبي تفكر عربان رحالة” نجحت في اكتساب مكانة خالدة ضمن التراث الجزائري، وذلك بفضل تبني فنانين كبار لها، مثل خليفي أحمد الذي برع في اختيار المدائح التي “عمرت بعده”، ورابح درياسة، هذا التناقل الفني والشعبي لـ«عربان رحالة” ضمن بقاء معانيها السوسيو- تاريخية حية في الذاكرة الجمعية، واستمرار تغلغلها الثقافي.
تظلّ القصيدة رمزاً للحنين إلى الأصالة والحرية التي كانت تمثلها البداوة قبل الضغوط الاستعمارية وما صاحبها من فوضى اجتماعية، القيمة الإنسانية التي يكتسبها هذا الشعر تكمن في قدرته على معالجة الصدمات الناتجة عن التغيرات القسرية في الهوية ونمط العيش، وتقديم القصيدة كـ«فضاء رحب من الروحانيات”.قصيدة “قلبي تفكر عربان رحالة” هي أكثر من مجرد تعبير عن العشق الوجداني أو الحنين الجغرافي، إنها نص وثائقي مكثف يسجل الصراع الوجودي والاجتماعي لقبائل السهوب في مرحلة مفصلية بين الانهيار السياسي للأنظمة القبلية التقليدية، والضغط الاستعماري الهادف للتوطين (ضد نمط البداوة كأصل).والحنين إلى “عربان رحالة” هو في جوهره حنين إلى نظام اجتماعي ذاتي قادر على توفير الأمن والكرامة والقيم النبيلة (الشجاعة، الكرم) في زمن عمّ فيه اللصوص والاضطراب، بهذه الطريقة، تحمل القصيدة بعداً سياسياً مغلفاً بالنقد لواقع الاستعمار وعجزه عن توفير الاستقرار.






