لم تكن مشاركة منتخب فلسطين في كأس العرب مجرد رحلة كروية تبحث عن نقاط أو تسجيل حضور رمزي في سجلات البطولة؛ لقد كانت معركة بقاء يخوضها الفدائيون بقلوب يعتمرها وطن بهامة مرفوعة، وسواعد تستنهض عزيمة الحياة.
هؤلاء اللاعبون لم يرتدوا قمصانهم كزيّ رياضي، بل كانت زيّ الكينونة، عباءة للذات التي ترفض الانكسار، ورايات حملها الفدائيون في أصعب اللحظات، ترفرف من أجل فكرة واحدة: أن فلسطين حاضرة، وأنها قادرة، وأنها تقاتل حتى صافرة النهاية مهما كان الخصم ومهما ضاق الطريق.
في كل مباراة، بدا المنتخب وكأنه يصعد إلى ساحة اشتباك، حيث تتداخل الحرية مع الحتمية، فالكرة لم تكن كرة؛ بل كانت رصاصة أمل تسعى للوصول إلى شباك الخصوم، والملعب لم يكن ملعبًا؛ بل كان أرض مواجهة يحاول فيها الفلسطيني أن يثبت حياته بجدارة، أن يصرخ: ها نحن هنا!
لم يكن اللاعبون يتعاملون مع الدقائق على أنها وقت رياضي، بل كأنها مساحات زمنية تُنتزع انتزاعًا من عدمية العالم، فرصة لإعادة تعريف الوجود. وكانت كل لحظة إضافية، فرصة أخرى لرفع الرأس، لقول شيء لم يسمح لهم العالم بقوله سياسيًا، فصرخوا به رياضيًا.
أمام كل فريق عربي وقف “الفدائي” لا بوصفه منتخبًا وحسب، بل كيان فلسفي حي، وقضية تمشي على قدمين، ذاكرة وطن تُترجم إلى تمريرات سريعة وصمود دفاعي ورغبة أخيرة في التسجيل، حتى لو ضاعت كل الفرص السابقة.
كانوا يقاتلون وكأنهم آخر جنود المعركة، لا خيار لديهم إلا أن يبقوا واقفين. فكل هدف سجّله اللاعبون كان يشبه طلقة ضوء تخترق عتمة الأخبار اليومية من الوطن الجريح، وكل هجمة خطرة كانت صدى لنبض شعب ينهض من الإبادة.
لم يفصل أحدٌ بين الرياضة والقضية؛ فالفلسطيني يدخل كل ميدان وهو يحمل معه ظلال المخيمات، حنين المدن المحاصرة، ووجع الغائبين؛ لذلك فإن أداء المنتخب لم يكن مجرد أداء كروي، بل كان سيرة وطن تُروى، وحكاية شعب يشقّ الريح.
ورغم قلة الإمكانيات، وتشتت اللاعبين بين الداخل والشتات، وصعوبة المعسكرات والمباريات، وقف “الفدائي” أمام منتخبات تملك تجهيزات وجيوشًا من الخبرات، لكنه كان يملك روحا لا تُهزَم، مستمدة من شعب اعتاد أن ينهض من الرماد، وأن يصرخ كلما حاولوا إسكات صوته.
وهكذا، في كأس العرب، أثبت منتخب فلسطين أنه ليس مجرد ضيف، بل مقاتل برتبة فدائي، يحمل راية بلاده على كتفه كما يحمل الجندي بندقيته، ويقف في الملعب كما يقف المرابط على الخط الأول، لا يتراجع، لا ينكسر، ويصمد حتى اللحظة الأخيرة؛ وكأنّها معركة البقاء.
^ اللوحة بريشة الفنان / محمود البوليس






