رؤية إستراتيجية حصيفة قائمة على السلم واحترام الشرعية الدولية
المبادئ الإنسانية العليا.. عنوان ديبلوماسية الدفاع عن القضايا العادلة
في ختام عهدتها غير الدائمة بمجلس الأمن الدولي، تخرج الجزائر وقد سجّلت بصمة دبلوماسية وازنة، بعدما أثبتت أن وجودها داخل أحد أخطر وأهم مراكز صناعة القرار العالمي، لم يكن شكليا ولا عابرا، فقد اختارت الجزائر أن تحضر بثقلها السياسي والأخلاقي، وأن تجعل من عضويتها إضافة هامة إلى الجهد الإنساني، ومنصة للدفاع عن القضايا العادلة وترسيخ منطق الحوار والسلم، في ظرف دولي اتسم بالاستقطاب الحاد وتراجع منسوب التوافق داخل المنظومة الأممية.
ولم يكن الحضور الجزائري مشاركة عددية في الاجتماعات ولا تسييرا بروتوكوليا للجلسات، فقد تجسد الحضور القوي في مواقف واضحة ومبادرات ملموسة ومرافعات سياسية جريئة، فالجزائر تحدثت من موقع الدولة التي تمتلك رؤية متماسكة للعلاقات الدولية، وتستند إلى مرجعية تاريخية ومبدئية في نصرة الشعوب المظلومة، واحترام سيادة الدول، ورفض منطق الإملاءات والتدخلات الخارجية، وبذلك، أعادت الاعتبار لدور العضو غير الدائم بوصفه فاعلا قادرا على التأثير وصناعة الفارق، وليس مجرد رقم بسيط في معادلات التصويت.
وعكست العهدة الجزائرية بمجلس الأمن نضج الدبلوماسية الجزائرية، وقدرتها على التوفيق بين الثبات على المبادئ، والبراغماتية في إدارة الملفات المعقدة، حيث نجحت في بناء توافقات، وفتح نقاشات جوهرية، وفرض أولويات إنسانية وسياسية على جدول أعمال المجلس، وبهذا الأداء، أكدت الجزائر أنها ترافع على بيّنة، وتقف الموقف على بيّنة، لا يثنيها الصعب عن التشبث بالقيم الإنسانية السامية كما أكدت أن حضورها الدولي يقوم على رؤية استراتيجية واضحة، تجعل من العدالة والسلم واحترام الشرعية الدولية مرتكزات لا تحيد عنها.
لقد شكّلت عضوية الجزائر بمجلس الأمن، محطة مفصلية في مسار دبلوماسيتها المعاصرة، حيث اختارت أن تكون صوتا جهوريا للقضايا العادلة، وضميرا حيّا للشعوب المقهورة، وحلقة وصل بين الجنوب العالمي والمنبر الأممي، ولقد حظيت الديبلوماسية الجزائرية بحظوة خاصة من رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون الذي جعل من الدفاع عن فلسطين وإفريقيا أولوية استراتيجية، وهي الرؤية التي مكّنت الجزائر من إعادة الاعتبار لدبلوماسية القيم والوفاء لميثاق الأمم المتحدة.
وخلال رئاستها لمجلس الأمن في جانفي 2025، عززت الجزائر مكانتها كطرف فاعل ومؤثر، فأدارت الملفات الحساسة بروح المسؤولية والاتزان، ونجحت في انتزاع مكاسب ملموسة رغم تعقيدات المشهد الدولي، ولم يكن أبدا من الصدفة أن تُوصف ولايتها بأنها «عهدة الوفاء للعدالة الدولية».
وكانت القضية الفلسطينية في صدارة الانشغال الجزائري خلال عهدتها بمجلس الأمن، باعتبارها قضية مركزية لا تقبل التهميش ولا المساومة، فمنذ الأيام الأولى لعضويتها، بادرت الجزائر إلى تحريك المجلس، ودعت إلى عقد 16 اجتماعا، بينها جلسات طارئة، خصصت لبحث تطورات العدوان الصهيوني على قطاع غزة، حيث رفعت صوتها عاليا لفضح جرائم الاحتلال والانتهاكات الجسيمة المرتكبة بحق المدنيين الفلسطينيين، مؤكدة أن ما يجري يمثل تهديدا صارخا للسلم والأمن الدوليين، واختبارا حقيقيا لمصداقية المنظومة الأممية.
ورغم اصطدامها المتكرر بعراقيل حق النقض، لم تتراجع الجزائر عن موقفها الإنساني والأخلاقي، بل واصلت طرق أبواب المجلس بإصرار ومسؤولية، واضعة حماية الشعب الفلسطيني في صلب تحركاتها، ولقد تجسد ذلك في مرافعة سياسية وإنسانية متواصلة، دافعت فيها عن ضرورة الوقف الفوري والدائم لإطلاق النار، ونددت بسياسات العقاب الجماعي والحصار، كما شددت على ضمان تدفق المساعدات الإنسانية دون قيد أو شرط، وحماية دور وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» من محاولات الاستهداف والتجفيف.
وفي هذا المسار، حرصت الجزائر على تنسيق مواقفها وتحركاتها مع الأشقاء العرب والفلسطينيين، إيمانا منها بأن وحدة الصف تعزز قوة الموقف داخل أروقة الأمم المتحدة، كما عملت على إدراج البعد السياسي كأفق لا غنى عنه لمعالجة جذور الصراع، مؤكدة أن وقف العدوان لا يمكن فصله عن إطلاق مسار سياسي جاد يفضي إلى تمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة، وعلى رأسها إقامة دولته المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشريف، وفق قرارات الشرعية الدولية.
في العمق الإفريقي، أثبتت الدبلوماسية الجزائرية أنها ركيزة أساسية في الدفاع عن القارة من داخل مجلس الأمن، سواء عبر تنظيم تسعة اجتماعات خُصصت للتحديات الأمنية والاقتصادية التي تواجه الأفارقة، أو من خلال قيادتها لمجموعة A3+، حيث عملت على توحيد المواقف الإفريقية والدفع بمقاربة «الحلول الإفريقية للمشاكل الإفريقية»، وقد شمل هذا الجهد ملفات السودان وليبيا والكونغو الديمقراطية وجنوب السودان، مع رفض صريح للتدخلات الخارجية وتمسك صارم بسيادة الدول ووحدة أراضيها.
وسجّلت الجزائر إسهاما تاريخيا لافتا في ملف مكافحة الإرهاب، جعل من عهدتها بمجلس الأمن محطة مرجعية في هذا المجال الحساس، لاسيما في ظل تصاعد التهديدات الإرهابية بإفريقيا وتحوّلها إلى أحد أخطر مصادر عدم الاستقرار الإقليمي والدولي، فقد دفعت الجزائر، انطلاقا من تجربتها الوطنية ومقاربتها الشاملة، نحو معالجة الظاهرة من جذورها، مؤكدة أن مكافحة الإرهاب تستدعي معالجة الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تغذي التطرف العنيف.
وتُوّج الجهد الجزائري باعتراف دولي رفيع المستوى بدور رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، بصفته نصير الاتحاد الإفريقي للوقاية من الإرهاب، وهو اعتراف يعكس المكانة التي تحتلها الجزائر كفاعل محوري في هذا الملف داخل المنظومة الأممية، وقد جاء هذا التتويج ثمرة لمبادرات جزائرية ملموسة، أبرزها رئاسة الاجتماع رفيع المستوى حول مكافحة الإرهاب في إفريقيا، وهو الاجتماع الذي أفضى إلى بيان رئاسي غير مسبوق كرس مركزية الدور الإفريقي وضرورة دعم مقارباته الذاتية.
وفي امتداد لهذا المسار، اعتمد مجلس الأمن ما يعرف بـ«المبادئ التوجيهية للجزائر» في مجال مكافحة تمويل الإرهاب، لتشكل إرثا دائما لهذه العهدة وإضافة نوعية لمنظومة السلم والأمن الدوليين، وقد أرست هذه المبادئ إطارا مرجعيا يعزز التنسيق الدولي، ويشدد على تجفيف منابع التمويل غير المشروع، مع احترام سيادة الدول وعدم توظيف هذا الملف لأغراض سياسية. وبهذا الإنجاز، أكدت الجزائر – مرة أخرى – قدرتها على تحويل عضويتها إلى مساهمة عملية ومستدامة في تعزيز الأمن الجماعي.
ولم تغب القضية الصحراوية عن العمل الديبلوماسي الجزائري، إذ سخرت الجزائر كامل صلاحياتها للدفاع عن حق الشعب الصحراوي غير القابل للتصرف في تقرير المصير، ونجحت في تحصين المرجعية القانونية للنزاع داخل مجلس الأمن، رغما عن الضغوط والمناورات، مؤكدة أن الشرعية الدولية لا تُجزّأ ولا تُقايَض.
إن الجزائر، وهي تُنهي عضويتها غير الدائمة في مجلس الأمن في 31 ديسمبر الجاري، تفعل ذلك ورصيدها مثقل بالمواقف المشرفة والإنجازات الدبلوماسية الملموسة، وقد أثبتت أنها قوة إقليمية مسؤولة، وصوت حق جهوري، ودولة لا تساوم في الدفاع عن العدالة، مثلما أراد لها رئيس الجمهورية، وكما يليق بتاريخها ومكانتها.





