ترسيخ انتصار المبادئ الإنسانية في بيئة دولية مشلولة
صوت مؤثر يعكس الالتزام بالمبادئ والدبلوماسية الواقعية في آن واحد
أكّدت الجزائر خلال عهدتها في مجلس الأمن الدولي تمسّكها الثابت بالقضايا العادلة وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، مع التأكيد على الحلول السياسية واحترام القانون الدولي، في وقت اتّسم بتصاعد الأزمات وتراجع فعالية المجلس، ما جعل حضور الجزائر صوتا مؤثّرا يعكس التزامها بالمبادئ والدبلوماسية الواقعية في آن واحد، ويبرز دورها كفاعل عالمي وإقليمي يسعى للحفاظ على العدالة ومواجهة ازدواجية المعايير الدولية.
دخلت الجزائر مجلس الأمن وهي تحمل رصيدا تاريخيا ثابتا في دعم حركات التحرر، وعدم الانحياز، واحترام سيادة الدول، وهي مبادئ شكّلت على الدوام جوهر سياستها الخارجية منذ الاستقلال، وقد جاءت هذه العهدة في ظرف دولي اتّسم بتعدد بؤر التوتر، وتراجع دور المؤسسات الأممية، وعودة منطق القوة على حساب القانون الدولي، ما جعل من الأداء الدبلوماسي داخل المجلس تحديا حقيقيا للدول المتمسّكة بالمبادئ.
ومنذ بداية عهدتها، حرصت الجزائر على أن تكون فاعلا مؤثرا داخل مجلس الأمن، من خلال مواقف صريحة ومبادرات سياسية واضحة، خصوصًا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية التي أعادت الجزائر وضعها في صدارة جدول أعمال المجلس، في وقت كانت فيه بعض القوى الدولية تسعى إلى تهميشها أو التعامل معها كملف ثانوي.
وقد عبّرت الجزائر عن رفضها القاطع للعدوان المتواصل على قطاع غزة، وطالبت بوقف فوري لإطلاق النار، وحمّلت الاحتلال الصهيوني مسؤولية الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني.
ورغم أنّ مشاريع القرارات التي دعمتها الجزائر اصطدمت مرارًا باستخدام حق النقض من قبل بعض الأعضاء الدائمين، إلا أن ذلك لم يُضعف من قيمة الموقف الجزائري الذي كسب معركة المبدأ والشرعية، وأعاد تسليط الضوء على عجز مجلس الأمن عن الاضطلاع بدوره في حماية المدنيين وفرض احترام القانون الدولي، عندما تتعارض العدالة مع مصالح القوى الكبرى.
كما برز البعد الإفريقي بوضوح في تحرّكات الجزائر داخل المجلس، حيث عملت على تنسيق المواقف مع دول المجموعة الإفريقية، وسعت إلى نقل انشغالات القارة إلى طاولة النقاش الدولي، خاصة فيما يتعلق بالنّزاعات المسلّحة، ومكافحة الإرهاب، والتنمية المستدامة، في ظل قناعة راسخة بأنّ تحقيق السلم والأمن الدوليين يمر حتما عبر إنصاف إفريقيا، وتمكينها من دور أكبر في منظومة القرار العالمي.
وخلال رئاستها الدورية لمجلس الأمن، بادرت الجزائر إلى تنظيم جلسات مفتوحة ومناقشات معمّقة حول القضايا الدولية الساخنة، داعية إلى تغليب الحلول السياسية، والحوار الشامل، واحترام سيادة الدول، ورفض التدخلات الخارجية التي غالبًا ما تزيد الأزمات تعقيدًا بدل حلّها.
وقد عكست هذه المقاربة رؤية الجزائر لدور مجلس الأمن كأداة لحفظ السلم لا كمنبر لتصفية الحسابات الجيوسياسية.
غير أنّ تقييم عهدة الجزائر يفرض التوقف عند القيود التي تواجه عمل مجلس الأمن، وفي مقدّمتها هيمنة «حق النقض» الذي حوّل المجلس في العديد من القضايا إلى هيئة مشلولة، عاجزة عن اتخاذ قرارات عادلة أو ملزمة، وهو واقع كشفت عنه بوضوح الحرب على غزة وغيرها من الأزمات، حيث سقط خطاب حقوق الإنسان أمام حسابات المصالح الضيقة.
ورغم هذه العراقيل، نجحت الجزائر في توظيف عضويتها لإبراز صوت مختلف داخل المجلس، صوت يدافع عن الشرعية الدولية دون انتقائية، ويؤمن بأن العدالة لا تتجزأ، وأن صمت المجتمع الدولي عن الجرائم والانتهاكات يقوّض مصداقية المنظومة الأممية بأكملها.
دبلوماسية الثّبات على المبادئ
وفي هذا السياق، أكّد المحلل السياسي والأستاذ الجامعي رابح زاوي أن عهدة الجزائر في مجلس الأمن الدولي شكلت تجربة دبلوماسية لافتة في مسار السياسة الخارجية للبلاد، مشيرا إلى أن ذلك لم يكن لسبب واحد، بل لجملة من العوامل المتداخلة التي ميّزت هذا الحضور في ظرف دولي بالغ التّعقيد.
وأوضح زاوي أنّ العهدة أظهرت قدرة الجزائر على الجمع بين الثبات على المبادئ التاريخية لدبلوماسيتها، والانخراط في منطق الواقعية السياسية في بيئة دولية أصبحت أكثر تعقيدًا خلال العقد الأخير.
وأشار زاوي إلى أنّ الجزائر، منذ بداية عضويتها غير الدائمة، جعلت من القضية الفلسطينية أولوية مركزية داخل مجلس الأمن، معتبرة الدفاع عنها التزاما أخلاقيا وتاريخيا يعكس هوية الدولة وموقعها في العالمين العربي والإسلامي.
هذا التّوجّه – يقول زاوي – دفع بالجزائر إلى التحرك بقوة وبشكل متواصل داخل المجلس، من خلال تقديم مشاريع قرارات تدعو إلى وقف العدوان على غزة وحماية المدنيّين، رغم اصطدام هذه المبادرات بحق النقض، لافتا إلى أنّ إبقاء القضية الفلسطينية على جدول أعمال المجلس في حد ذاته يُعد مكسبا سياسيا وأخلاقيا، حتى وإن كانت النتائج العملية محدودة.
وتابع زاوي بأنّ تحليل عهدة الجزائر في مجلس الأمن، اتّسمت بالمثابرة الدبلوماسية المستمرّة، حيث لم تكتف الجزائر بتقديم القضية الفلسطينية كملف إنساني، بل سعت إلى ربطها بالقيم والمؤسّسات التي تأسّست عليها الأمم المتحدة، وعلى رأسها حق الشعوب في تقرير مصيرها واحترام القانون الدولي الإنساني، مبرزا أنّ هذه المقاربة مثلت محاولة لإعادة الاعتبار لميثاق الأمم المتحدة في مواجهة اختلال موازين القوى، وهو ما وصفه وزير الخارجية أحمد عطاف بعهدة الوفاء لقيم ومبادئ الأمم المتحدة.
وأشار زاوي إلى أنّ الخطاب الجزائري تجسّد عمليا من خلال المواقف الثابتة، سواء عبر أنماط التصويت أو المرافعات السياسية التي شدّدت على ضرورة أن يكون مجلس الأمن أداة لحماية السلم والأمن الدوليين، لا منصة لتكريس منطق الهيمنة والقوة، مفيدا بأنّ الجزائر حرصت، إلى جانب الدفاع عن القضية الفلسطينية، على أن تكون صوتا داعما لقضايا شعوب أخرى، خاصة في إفريقيا والعالم العربي، من خلال تعزيز التضامن الإقليمي داخل المجلس.وأكّد زاوي أنّ هذا الدور منح الجزائر صورة الدولة التي لا تكتفي بمصالحها الوطنية، وإنما تكرّس جهدها لمصالح دول الجنوب في مواجهة سياسات القوى الكبرى.
وأشار المتحدّث إلى البعد الاستراتيجي لعهدة الجزائر في مجلس الأمن، حيث تجلّى – حسب قوله – في قدرتها على التأثير في النقاشات الكبرى، وأكّد أنّ الجزائر نجحت في تعزيز مكانتها في محيطها العربي والإسلامي، حيث تُعتبر صوتًا قويًّا للقضية الفلسطينية، كما ساهمت هذه العهدة في رفع رصيد الجزائر في العلاقات الإفريقية والدولية، من خلال تمسّكها بالدفاع عن القيم الأممية في مواجهة الانحيازات الكبرى.
وحسب زاوي، تمثّل عهدة الجزائر في مجلس الأمن تجسيدًا لهويتها الدبلوماسية الراسخة، المبنية على الالتزام التاريخي بالقضايا العادلة، والسعي للعب دور مؤثّر في النظام الدولي، في ظل الاختلالات البنيوية التي تميز عمل المجلس. ولفت إلى أنّ هذه العهدة أعطت الجزائر فرصة لإظهار قدرتها على الجمع بين المصداقية السياسية والثبات الأخلاقي، والانخراط الفعلي في مواجهة التّحديات الدولية المعقّدة.





