في زمن تطويق الحقائق واختطاف الروايات، تبرز أحيانًا تجارب إعلامية تتحدى منطق القوة بسلطة الحقيقة، وتخترق جدران الصمت بصوت الإنسانية المجروحة. من بين هذه التجارب النادرة يأتي “ملحق الأسرى” الذي أصدرته جريدة “الشعب” الجزائرية، ليس كمشروع صحفي تقليدي، بل كفعل مقاومة إعلامي حوّل معاناة آلاف الأسرى الفلسطينيين خلف القضبان من هامش النسيان إلى قلب الضمير العالمي، وصاغ رواية بديلة عن صمود شعب تختطف حرية أبنائه. ولم يكن لهذا الصوت أن يعلو أو يتردد بهذا العمق لولا بصيرة وإرادة الراحل أيقونة الإعلام عز الدين بوكردوس، الذي جعل من هذا الملحق لحظة فارقة في تاريخ الإعلام المنحاز للعدالة، محققًا تأثيرًا مزدوجًا: كمرآة عكست كرامة الأسرى في السجون، وكرافعة روحية دعَّمت عائلاتهم في الخارج، ضمن مشهد إعلامي عربي يترنح بين الرسمية المسطَّحة والتلقائية المشتتة.
لقد ولّد هذا الملحق من رحم تاريخ طويل من التضامن الجزائري الرسمي والشعبي مع القضية الفلسطينية، التي باتت جزءًا من الهوية الوطنية الجزائرية بعد ثورة التحرير. ومع تصاعد وتيرة الاعتقالات الإسرائيلية الجماعية وانتهاج سياسة القبضة الحديدية، شعرت جريدة “الشعب”، بوصفها منبرًا وطنيًا يحمل رسالة تحررية، بمسؤولية خاصة لتسليط ضوء دائم ومتخصص على هذه القضية الإنسانية المحورية. جاءت المبادرة في لحظة كانت فيها قضية الأسرى تتعرض للتهميش الإعلامي الممنهج، فالإعلام الغربي كان يرسمها ضمن سردية “الإرهاب” والأمن، بينما كان الإعلام العربي الرسمي يتعامل معها ببردية إخبارية تفقدها جوهرها الإنساني والنضالي. هنا بالضبط، أدرك بوكردوس أن المعركة الحقيقية هي معركة الرواية، وأنّ تحرير الوعي هو الخطوة الأولى نحو تحرير الأرض والإنسان، فجاء ملحقه ليكون سلاحًا معرفيًا ووجدانيًا في آن واحد، مؤمنًا أن الإعلام الحقيقي ليس ناقلًا محايدًا للأحداث، بل صانعًا للرأي ومنحازًا بوضوح للضحايا والمظلومين.
تحت رؤية بوكردوس الاستثنائية، تحوّل الملحق من صفحات ورقية إلى مشروع نضالي متكامل. كان الرّاحل يرى في كل أسير قصة أمة مصغّرة، وفي كل زنزانة مختزلاً لمحنة شعب بأكمله. لم يكن محررًا عاديًا، بل كان استراتيجيًا إعلاميًا وقائدًا لفريق حوّل الفكرة إلى فعل يومي مؤثر. لقد صمم منهجية عمل ذكية جمعت بين العمق السطحي، فلم يكتف بنشر خبر الاعتقال أو الإضراب، بل غاص في تفاصيل الحياة خلف القضبان: معاناة المرضى المحرومين من العلاج، أحلام الشباب الذي التهم السجن زهرة عمرهم، قسوة العزل الانفرادي، وصمود النساء والأطفال القاصرين. كان الملحق يرافق كل حالة بمادة قانونية تفضح انتهاكات الاحتلال للقانون الدولي، وبتفاصيل إنسانية تخلق علاقة وجدانية بين القارئ والأسير، وبتحليل سياسي يربط مصير الفرد بمصير القضية الجماعية. وهكذا، حوّل بوكردوس الأرقام المجردة إلى وجوه وذكريات وأسماء لها أهل ينتظرون.
الأثر الأعمق لهذا المشروع كان داخل السجون نفسها. فبالنسبة للأسرى الفلسطينيين، لم يكن وصول أعداد من “ملحق الأسرى” مجرد حدث إخباري، بل كان كمنفذ هواء يخترق جدران العزل والتعتيم. لقد فهم بوكردوس أنّ أحد أسلحة المحتل الفتاكة هو محاولة طمس هوية الأسير وتحويله إلى رقم مسجون في طي النسيان، فجاء الملحق ليقول للأسير: أنت لست وحدك، قصّتك مسموعة، صورتك مرئية، وصمودك يتحول إلى إلهام للأحرار خارج الأسوار. كانت تلك الصفحات تتناقل بخفّة بين الأيدي داخل السجون، حاملةً أخبار الإضرابات، والتحركات الحقوقية الدولية، ورسائل التضامن من مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي. هذا التواصل الرمزي خلق جسرًا نفسيًا هائلاً، وعزّز من مناعة الأسرى النفسية، خاصة أولئك الذين قضوا عقودًا في الظلام، فأشعرهم أنّ ذاكرة الأمة حية تحفظ أسماءهم وتناضل من أجل حريتهم. كان التأثير يعمل في اتجاهين: فبينما كان الأسرى يستمدون القوة من معرفة أن صوتهم يصل، كان الملحق نفسه يغتذي من قصص صمودهم ليواصل مهمته.
وإذا كان الأسرى يعانون العزلة المكانية، فإنّ عائلاتهم خارج السجون كانت تعاني عزلة من نوع آخر: عزلة القلق الدائم، والشعور بأن معاناة الغائب الحبيب قد أصبحت روتينًا في عين العالم. هنا، تحوّل “ملحق الأسرى” إلى صديق ومؤنس لهذه العائلات. فمن خلال توثيقه الدقيق للحالات، ونشره للصور والتفاصيل الشخصية، ومتابعته القانونية للقضايا، أعطى العائلات إحساسًا بأن كفاحها اليومي ليس خفيًا. لم يكن نادرًا أن يقوم بوكردوس نفسه بلقاء أهالي الأسرى، يسمع شهاداتهم بحنان الأب وقوة الصحفي الملتزم، لينقلها بتفاصيلها المرة والمشرقة في نفس الوقت. لم يقتصر الدور على النقل الصحفي فحسب، بل تحوّل الملحق إلى منصة ربط بين العائلات والمؤسسات الحقوقية، وحتى بين العائلات نفسها عبر شتى جغرافيات فلسطين والشتات، مما نسج شبكة تضامن اجتماعي قوية، حولت الألم الفردي إلى قضية جماعية جامعة.
على مستوى المشهد الإعلامي، أحدث الملحق نقلة نوعية. فقد قدّم نموذجًا عمليًا لـ«إعلام المقاومة” أو “الإعلام المنحاز” الذي يرفض ادعاء الحياد الزائف أمام جرائم واضحة. كان نموذجه قائمًا على ثلاث ركائز: الاستمرارية في المتابعة اليومية رغم كل التحديات، التخصص والعمق في معالجة الجوانب القانونية والإنسانية والنفسية، والوضوح الأخلاقي في تبني الرواية الفلسطينية دون مواربة. هذا النموذج الريادي شجع وسائل إعلام عربية أخرى على إنشاء مساحات مخصصة للقضية أو على الأقل التعامل معها بجدية أكبر وبمنهجية أعمق. وفي الجزائر، أعاد الملحق تعريف التضامن مع فلسطين، محوّلاً إياه من خطاب سياسي عام وشعاراتي إلى تضامن إنساني ملموس، يصل إلى كل بيت جزائري عبر قصص حية وأسماء لا تنسى، مؤكّدًا أن القضية الفلسطينية ليست قضية سياسية فحسب، بل هي قضية ضمير وكرامة إنسانية.
رحل بوكردوس تاركًا إرثًا إعلاميًا عملاقًا، لكن سؤال الاستمرارية يبقى قائمًا، لقد أثبتت التجربة أن المبادرات الكبيرة غالبًا ما تحمل بصمة أفراد استثنائيين، يصعب تعويضهم. ومع التحول إلى العالم الرقمي، تغيّرت أشكال النضال الإعلامي، لكن روح ما أنجزه ملحق “الشعب” لا تزال حيّة. فهي تتناسخ اليوم في منصات التواصل الاجتماعي التي تنقل أخبار الأسرى بلحظيتها، وفي القنوات الإعلامية المتخصّصة، وفي عمل المؤسسات الحقوقية التي توثق الانتهاكات. لقد زرع بوكردوس فكرة جوهرية: أنّ قضية الأسرى ليست ورقة تفاوض عابرة، بل هي جوهر الصّراع، لأنها تمثّل محاولة الاحتلال لكسر إرادة الشعب وسرقة مستقبل أبنائه. كلماته التي اخترقت القضبان في الماضي، صارت اليوم إرثًا يُستلهم، ودرسًا في أن الصحافة يمكن أن تكون ضميرًا نابضًا، وساحة من ساحات المواجهة، حيث تنتصر الحقيقة مهما طال الحصار، وتظل كلمة الحق سلاحًا لا يصدأ.






