يصف الكاتب والرّوائي عبد الهادي دحدوح، التّراث المحكي بأنه صمام أمان الذاكرة الوطنية، وجسر الجزائر إلى الهوية وروحها، نظرا لما تمتلكه الجزائر من كنوز بشقيها المادي واللامادي، رغم ما يعترضه من عوائق فرضها التطور الحاصل في العالم.
أكّد صاحب رواية “سيفار”، عبد الهادي دحدوح، في تصريح لـ “الشعب”، أنّ التراث المحكي يسهم في الحفاظ على الذاكرة والهوية الثقافية إسهاما محوريا وغير قابل للاستبدال، لعدة أسباب، على غرار أنه خزّان اللغة واللهجات الأصيلة، معتبرا الحكايات الشعبية هي وعاء حفظ المفردات القديمة واللغات واللهجات المحلية الدقيقة (مثل الزناتية أو التارقية والتواتية في الجنوب).
إنّ تداول هذه القصص – يقول المتحدّث – “يضمن أن تبقى هذه التعابير حيّة ومتداولة بين الأجيال، وكذا مرآة القيم والأخلاق، من خلال الأساطير والسير الشعبية، كحكايات تينهنان أو إلياس، وهي مدارس أخلاقية مصغرة”، وأضاف “بأنها ترسّخ قيماً متوارثة مثل الكرم، والضيافة الصحراوية والعدل وحكمة الشيوخ، ورباطة الجأش أمام قسوة الطبيعة، هذه القيم تشكل النواة الصلبة للهوية الجزائرية”.
بالإضافة إلى حفظ تاريخ “المهمّشين”، يقول صاحب رواية “مول الضاية”، فالتاريخ الرسمي غالبا ما يركّز على الأحداث الكبرى، بينما يحفظ التراث المحكي قصص المقاومة المحلية، ونضال القبائل، وسرديات النساء، وتفاصيل الحياة اليومية البسيطة، مشيرا إلى أنه التاريخ المروي للناس العاديين، مما يضمن أن الذاكرة الوطنية شاملة وعميقة، على غرار الجنوب الجزائري تحديداً الذي يمثل التراث المحكي، وخاصة الأغاني البدوية والأمثال التارقية، دليلا حيا على تمازج الثقافات وتوحيد الجغرافيا، ما يعزز فكرة الجزائر الموحدة بكل تنوعها اللغوي.
ودعا المتحدث إلى ضرورة وضع استراتيجيات عمل للحفاظ على التراث في زمن التحولات المتسارعة، وفي ظل العولمة وهيمنة المحتوى المرئي السريع الذي يجعل التراث المحكي يواجه تحديا وجوديا، ما يجعل إستراتيجية الحفظ ملزمة بتجاوز “التوثيق الورقي” إلى “إعادة الإحياء والتسويق الرقمي”، من خلال إنشاء منصات رقمية ومكتبات صوتية متخصصة (بودكاست) تسجل الحكايات بصوت الرواة الأصليين في مناطقهم (خصوصاً الجنوب)، ومنه يجب أن تكون المنصات سهلة الوصول ومجانية، إضافة إلى تحويل التراث من “شفوي” إلى “مرئي ومسموع” للمنافسة في الفضاء الرقمي، وتوظيف التكنولوجيا الحديثة كاستخدام الرسوم المتحركة القصيرة أو الألعاب الإلكترونية المبنية على شخصيات وأحداث الحكايات الشعبية الجزائرية، مما يجعل التراث ممتعا وجذاباً للشباب الذي يستهلك محتوى سريعاً ومبتكراً.
ويرى محدّثنا ضرورة دعم الرواة والمحافظين، بتقديم دعم مادي ومعنوي للرواة والشيوخ في القرى والقصور الجنوبية، والاعتراف بهم كـ “كنوز بشرية وطنية”، لضمان استمرارهم في نقل المعرفة. والحفاظ على المصدر البشري والحيوي للتراث قبل اندثاره، مع إقامة مسابقات بجوائز قيمة لكل من يقدم أكبر عدد من المخطوطات أو الأغاني القبولية أو القصائد العتيقة.
واختتم دحدوح تصريحه لـ “الشعب”، بالتأكيد على أن التراث الشعبي المحكي هو الحصن الأخير ضد الذوبان الثقافي. فإذا ضاعت حكاياتنا، ضاعت معها لهجتنا، وذاكرتنا الجمعية، فالتراث جزء لا يتجزأ من هويتنا، لذلك تتحمّل المؤسسات الثقافية والأسرة مسؤولية مشتركة تجاه “كلمات الأجداد”. فالحكاية التي تُروى اليوم على ضوء شاشة الهاتف، يجب أن تكون هي ذاتها الحكاية التي رويت على ضوء نار المخيم في عمق الصحراء. بهذا التزاوج بين الأصالة والتقنية، نضمن أن يبقى جسر الجزائر الثقافي موصولاً بين الماضي والمستقبل.







