في معتقل “عوفر”، لا تشرق الشمس لتنشر الضوء، بل لتعلن عن جولة جديدة من الموت البطيء. بدأت الحكاية حين قرّر الاحتلال، بعد ثلاثة أشهر من الإنكار والاختفاء القسري في غياهب “سيدي تيمان” السيئ الذكر، أن يمنحني حقا مكفولا بالورق، ومنزوعا بالواقع: زيارة محامٍ.
في تمام السابعة صباحا، لم يطرق السجان باب الغرفة رقم (4) في “قسم الجحيم”؛ بل زلزل المكان بصرخاته التي تأمر الجميع بالانبطاح. عشر غرفٍ تحولت في لحظة إلى أجساد ملقاة على البطون، وجباهٍ تلتصق بالأرض، وأيدٍ فوق الرؤوس في ذلٍّ متعمد. وسط ضجيج القيود الحديدية ونباح الكراهية، دوّى الرقم: “788 رامي أبوزبيدة!”.
تحركتُ والأرض تميد بي.
هل هو تحقيق جديد؟
هل سأعود لـ«سيدي تيمان”؟
قدماي ترتجفان لا خوفا من الموت، بل من المجهول الذي ينتظر خلف ذلك الباب. “نزل رأسك! لف يديك خلف ظهرك!”.. وبسرعة خاطفة، أُخرجت يداي من طاقة الباب لتُكبلا ببرودة الحديد، ثم سُحبتُ بعنفٍ كأنني جماد، وعُصبت عيناي لتغرق الدنيا في سوادٍ دامس.
سجــــــدة القهـــــــر
ألقوا بي في ساحة محاطة بالأسلاك بالسياج، حيث الحصى المدبب يغرس في الركب والجباه. هناك، أُجبرتُ على “وضعية السجود” القسري. من السابعة والنصف صباحا وحتى منتصف الظهر، كنتُ مجرد كتلة من الألم، ممنوعا من الحركة، ممنوعا من الأنين، ورأسي يلامس الحصى الذي استعر بحرارة الشمس، في صلاة قهرٍ فرضها الجلاد.
الفاصـــــــل الوهمـــــــي
فجأة، تغير المشهد. في الثانية عشرة ظهرا، سحبني مجندٌ يتحدث بلسانٍ عربي، وأدخلني إلى “كرفان”. هناك، سقطت العصبة عن عيني، ونُقلت القيود لتقيدني من الأمام، وبدت المعاملة “لطيفة” على نحوٍ مريب.
خلف نافذة زجاجية مثقوبة، جلست سيدتان بوجوهٍ باسمة.. لم تكن مجرد وجوه، بل كانت نوافذ أطللتُ منها على رائحة عائلتي وأخبار أمي وأطفالي. كانت كلماتهن كمحاميات من “لجنة مناهضة_التعذيب” بمثابة أكسجين في غرفة مخنوقة. طلبا مني تقديم شكوى ضد انتهاكات “سيدي تيمان”. وافقتُ رغم علمي أن الكاميرات ترصد أنفاسي، وأنني أوقع على صكي في “فك الأسد”.
العـــــــودة إلى الحقيقـــــــة
خمس وأربعون دقيقة من “الإنسانية” انتهت بانتهاء المقابلة، وبمجرد أن غابت وجوه المحاميات، استيقظ الوحش مجددا.. سُحبتُ بعنف، أُعيدت العصبة، وعادت يداي للخلف. وبدلا من إعادتي للزنزانة، أُلقيتُ مرة أخرى في “وضعية السجود” على الحصى الحارق تحت لهيب شمس الظهيرة وحتى غروبها.
لم يكتفوا بساعات السجود القسري؛ بل اختتموا “يوم الزيارة” بوجبة من الضرب المبرح تركت جروحا غائرة في رأسي وقدمي. وعند باب الغرفة، وبينما كان السجان يفكّ الأصفاد ليعيد ربطها من الأمام، ضغط بكل حقده على إصبعي الصغير.. شعرتُ بصوت كسره يتردد في أعماق جمجمتي. كُسر الإصبع عمدا، لتظل ذكرى الزيارة وشما من الألم لا يزول.
في معتقل “عوفر”، تعلمتُ أن زيارة المحامي ليست طريقا للعدالة، بل هي “#قطعة من العذاب” يذيقنا إياها الاحتلال كضريبة لكل مرة نحاول فيها أن نرفع صوتنا ضد الظلم.
ومازالت المشاهد مستمرة..







